الفصل الثامن و العشرون ج٢

Background color
Font
Font size
Line height

ادعوا لخالتي إيمان ولجدتي سعاد بالرحمة والمغفرة????

——————-
نكون انتهينا...
نكون؟
انتهينا؟

ألم تُنبهه أكثر من مرة بهروبها المفاجئ والذي يُبعثره كليًا؟
كيف "نكون" كفعل مستمر وهما لم يبدئا حياتهما كزوجين طبيعيين ولو مرة واحدة!!
كم مرة يجب عليه أن يُكفّر عن سيئاته تجاهها و ينفضا غبار عثراتهم حتى يستعيدا حياتهما...
أليس .. هذا... أقل... الأماني؟
أم أنه رجلٌ خُلق ليُنفذ أحلام غيره لا ليتمنى!

صدى حروفها لا يزال يطن في أذنيه، يلتوي له صدره بآخر نظراته المنكسرة التي كانت ترشقه بها وهو يرتدي ملابسه، لأنه في ظنها هو ذاهب ليرى زوجته الثانية... زوجته التي فضلها عليها

ولا تعرف أنه أطلقَ قدميه في طريق الخلاص من الكوارث التي حلّت عليهم... فالعودة منه لعنة والتقدم فيه ألم تتمزق له الأحشاء

أوقفَ السيارة وقبل أن ينزل منها أرسلَ رسالة مقتضبة لسالم

-عِد العتاد وتعالي القاهرة وحدك... وحدك يا سالم.

ثم ترجلَّ من سيارته وبيده كومة من الأوراق ثم صعدَ إلى الشقة المنشودة ورنَّ الجرس ولم تمر ثوانٍ معدودة حتى أطلَّ وجه ياسمين التي لم تكـن تُشبه في اسمها من عبق أو جمال بل كانت على النقيض؛ ياسمينة لم تجد من يرويها فذبلت...

لكنها ترّفعت عن ذلك وابتسمت ابتسامة رقيقة وقالت بصوتٍ مبحوح مبطون بالحزن

-في الوقت المحدد تمامًا...
اقترب منها أكثر، ثم رد بصوتٍ خفيض

-بل تأخرت... تأخرت كثيرًا
ودخل وأقفل الباب خلفه....

هناك لحظات فارقة في حياتنا تُشكل بقيتها، تجبرنا على الانصياع.. التقبل... الهزيمة في أوج النصر... ربما في ظاهرها قاتمة، مُزعجة لكنها نجاة من هلاك...
فأيهما ستختار...
ساعة هناء وأبد الدهر هالكًا مذمومًا
أم لحظة وجع من شدته تكاد تقتلع فيها قلبك من موضعه.

نُقطة ومن بادئ السطر...

-إذًا كانت هذه هي الحقيقة التي أخفيتموها جميعًا عني؟... أن خالي عضوًا في المافيا كما أن زواجي منك لم يكن سوى انتقامًا لعمك الذي قتله والدي....والدي!!!
تقاطرت الدموع على خديها في صدمة ووجع، ما تشعر به قليل على فكرة سرده أو طرحه في مُجرد سطور، رفعت عينيها إليه محفوفتين بالدماء، وهدرت من بين أسنانها

-لم تخبرني بكل هذا الآن؟

تقبّل غضبها المتوقع وردَّ بهدوء
-أقل حقوقك أن تعرفي ما يُحاك خلفك

سخرت وهي على شفا حفرة من الانهيار، قلبها ينشطر إلى نصفين في جملتها التالية

-يا لطيب قلبك!! هل تراني حمقاء لهذه الدرجة حتى لا أصدق أنها ربما لعبة أخرى منك؟ لقد خنت ثقتي مرة ولا أستبعد أن تفعلها ثانية فأنت لا تقل حقارة عنهم

بصقت الكلام في وجهه دفعة واحدة، لتشتد قبضته وقد بدأ الغضب يتسرب إليه دفعةً واحدة وعلى غير عادته تغاضى عن الوصف الذي وصفته إياه لأن الموقف لا يحتمل
- تظن أن الفتاة الساذجة التي ارتضيت بك قبلاً ستقبل أن تكون بيدقًا في لعبة أخرى؟ هل انتهيت مني لهذا أردت أن تسحب نفسك من اللعبة وضميرك مرتاح.. لن أنولها لك... ستعيش دائمًا تعيسًا بذنبي

مسحَ على وجهه بنفاذ صبر واقترب منها ممسكًا ذراعها لتتنبه هي على نفضتها من مكانها ووقوفها أمامه كالطير الجريح
-ياسمين اهدأي الأمر لا يحتمل عتابًا أو لومًا وإن كان لكِ كل الحق في ذلك لكن دعينا نفكر بعقلانية ونترك خلافتنا على جنب هذه المرة فقط... فأنا لدي أشياء تهمك بخصوص والدتك

كانت سترد عليه ردًا عنيفًا لولا أخر كلماته التي استرعت انتباهها وجعلت غضبها ينطفئ وينهض من رماده الصدمة والترقب

بشفاه مُرتجة خرج منها صوتًا محشرجًا همست
-والدتي أنا؟ لقد ماتت!! أقسم يا سلطان لوكانت هذه لعبة من ألاعيبك سأ....
-أقسم لكِ أنني لا أكذب هذه المرة

قاطعها بجملته الرزينة التي حملت قسمًا صدقته، فالثقة تنضح بجلسته الثابتة وأعينه التي تقدم وعدًا تخاف أن تنخدع به
-لن أصدقك إلا عندما أرى بنفسي

زار شفتيه بسمة خافتة وهو يقول بجدية بعدما تحقق مراده دون أن يُهدر وقتًا في اقناعها

-وهو كذلك سأخبرك بالوقت والمكان حالما أتأكد

ذيّلَ آخر حديثه باستقامة تحت أنظارها المرتقبة والتي تحمل الكثير والكثير من العتاب خلفهما، وقبل أن يستدير راحلاً ألقى عليها نظرة تحمل الكثير من الأسف والكثير والكثير من الندم ولو لم تكن تتوهم لقالت أن أخر ما حفَّ عينيه كان الشفقة....

-أنا آسف حقًا لو لم تكن الظروف التي شكّلت حياتنا لما حدثَ كل هذا....

تعرف ما سيقول بعد ذلك هي ليست غبية لأن تدرك الفشل الحتمي لهذه العلاقة منذ أن بدأت.. لم ينظر لها كما ينظر لرابحة قط... لم يعبأ بها.. تركها مُعلّقة كياسمينة فقدت راويها حتى ذبلت

هي لا تكرهه ولا تحبه أيضًا!

لطالما كان وجع كرامتها أكبر من هذا الهراء الذي يُسمى حب....

ردت عينيه وفي عينيها لمعة خفيفة من الدموع

-لكل شخص أقدار يا سلطان ونحن قدرنا كان مؤقتًا مرهونٌ بانتقام قديم حققته أنت بنجاح.. لذا لا تأسف .. لا تأسف أبدًا على ما خلّفه هذا الانتقام لكل حربٍ ضحايا وقد قدّرَ لي أن أكون أنا الضحية.. وإن لم أسامحك الآن فالزمن كفيل أن يجعلني أنسى وأسامح

أسبلَ أهدابه بحرج، كلماتها تُصيبه في الصميم لكن ما بيده حيلة، لقد أخطأ ولن يكرر الخطأ ثانية...
قبل أن يفتح الباب موشكًا على الخروج قال بعد تنهيدة طويلة اختزلَ فيها كل الامتنان والاعتذارات الغير منطوقة

-أنتِ طالق....
استقبلت الخبر بابتسامة خافتة متألمة يؤازرها الوجع الذي ينضح من مُقلتيها وفي لحظة شفقة منه أنزل الدموع لتحتضن طرفي شفتيها في مواساةٍ خاصة

أغلقت الباب خلفه ولحظة من الجمود اعترتها، ظلت مُحدقة في الفراغ ثوانٍ معدودة وصدرها يعلو ويهبط برتم غير منتظم... ثانية.. اثنتان ثم ضجت حوائط المنزل ببكائها

شهقات متتالية وقلب يعتصره الألم وأعين قد غشاها الحسرة قبل أن تمنعها الدموع من الرؤية... ارتمت على أقرب كرسي وهي تصرخ بملئ صوتها كالطير الجريح الذي أوشك على فقدان أنفاسه
-تبًا للانتقام....تبًا للحرب... تبًا للضحية...
لم أنا؟

صحيح؟ لم هي؟!!
**********
وهو لم يكن أقل منها لكنه عرف كيف يكبح دواخله في وجه جامد وكلمات مقتضبة حدثَ بها سالم على الهاتف ليقابله حالما يصل للقاهرة
-أين أنت؟
أجابه سالم من الطرف الأخر
-في الطريق لقد كان وقتًا قياسيًا جمعت فيه ما تريد حتى أنني تركت بناتي وزوجتي لأجلك و.. سلطان!

صمت خيّم بعد ذكره لاسمه إذًا ما المصيبة التي فعلها سالم ليتعثر في حديثه هكذا بعد أن قال ما لفت انتباهه " زوجتي وبناتي"

منذ متى يا سالم؟ منذ متى لكنه لم يكن في مزاج ليسأله وعوضًا عن ذلك أردف

- قل ما عندك سريعًا لأن صبري في هذه اللحظة أضيق من خرم الإبرة

استشعر سالم الجو المتوتر ناحيته ابن خاله ليحمحم قائلاً في محاولة لتجنب شر مُحدثه

- لاشيء كنت أطمئن على حالك

ارتفعَ طرف شفة سلطان بسخرية جلية

-فيك الخير والله يا أمي سأشرب اللبن وأنام

-أسقط نبرة الاستهزاء من حديثك حتى لا ألقمها في حلقك لتختنق بها

والرد الذي أنفقه سلطان عليه كان هو صوت صفير الهاتف بعد إغلاقه في وجهه

-الوضيع!!! لقد أقفل الهاتف في وجهي وأنا من قطعت سكة سفر طويلة لأجله؟؟ كان عليّ تركه ليتعفن في ما أوحل نفسه فيه ولا أتدخل لكن قلبي الطيب هو الذي جعلني آتي ليرد جميلي هكذا؟؟

ربت الجالس بجانب سالم على كتفه وهو يكبح ابتسامته

*********

وعلى الجانب الأخر طفقَ يُفكر فيما صنعت يداه..

لقد كان خطئًا واحدًا كلفه تدمير حياته وحياة من يُحب وراح ضحية هذا الخطأ بريئة لا ذنبَ لها سوى أنها ابنة فاسق

وأثناء جلده لذاته لمحَ محل زهور يقع في جهة معاكسة لوجهته لكنه لم يفكر مرتين قبل أن يوقف السيارة ويترجل منها قاصدًا المحل

ما إن دخلَ وأزهرَ داخلَ صدره بستانًا من عبق الورود المختلفة، لطالما اعتاد على خشونة رمال موطنه وشمسه القاسية لذا الملمس الناعم لوردة التوليب بين أصابعه تُصيبه برعشة غريبة مثل التي تُصيبه عند وجود رابحة في حيزه

رعشة لذيذة... مُربكة.. تستفز حواسه.. وكل مرة يكون تأثيرها عليه كأول مرة

-إنه ورد التيوليب الأبيض

نظرَ من فوق كتفه للفتاة الجميلة التي تُحدثه بابتسامة رقيقة أظهرت حفرتين في وجنتيها، أكملت وهي تُشير على نفس الزهرة ولكن بلون مختلف

-لها عدة ألوان الأبيض والبنفسجي والـ...

-الأبيض؟
قالها سلطان دون تفكير لتتحدث الفتاة بنفس الابتسامة ولكن بلهجة متشككة

-هل حقًا تريدها؟ ففي الثقافة الكورية هذه الورود مخصصة للجنازات

التفتَ إليها مهيمنًا عليها بطوله الفارغ وأردفَ بسخرية لا تتناسب مع جدية ملامحه

-وهنا في مصر الورد هو بمثابة الطريق الأقرب للنساء أيًا كان نوعه

كانت على وشك الرد لكن رنين الاكسسوارات المُعلّقة أعلى الباب أنبأ بدخول شخص المتجر، ولو لم يكن يتهيأ سلطان فجسد الفتاة انتفض حالما أدركت هوية القادم

انشغلَ هو بتفحص المتجر وأذنه تلتقط بعض الهمس الغاضب بينها وبين ذلك الرجل، التفتَ إليهم بغتة ليرى إن كان هذا الرجل يضايقها لكن على العكس تمامًا الفتاة تقف وعلى وجهها إمارات الحنق وتعطي لمُحدثها الكتف البارد بينما الأخر يتنهد بنفاذ صبر كأنه يصارع شياطينه ألا تنفلت على الرقيقة التي أمامه ثم تحدث بهدوء شديد وملامح لينة كأنه يُهدهد طفلة

زارته تلك البسمة المتخفية في حنين ساحق، يُذكره المشهد الدافيء الذي أمامه بعيون احتلتها آشعة الشمس الحارقة لن يكف عن التودد لها لتعود رائقة مشعة، و رغم أن رابحة لم تكن قصيرة كالفتاة إلا أنها حين تقف مُجابهة له لا تصل إلا لكتفه

وبعد دقائق كان يقف أمام الطاولة وبيده الباقة ولا يزال الجو مشحونًا بالتوتر فالفتاة على مشارف البكاء بينما الرجل يقف خلفه يعقد ذراعيه لصدره وهو على وشك قتل أحدهم

كان فيه طريقه للخارج لكنه توقفَ وعادَ أدراجه ثم التقطَ وردة حمراء وأثناء مروره للخارج وضعها في يد الرجل الذي انتفض مستقيمًا في وقفته ورمقه متعجبًا رافعًا حاجبه وبلهجة شديدة أردف

-ما هذا؟

-اعتذر قبل أن يفوت الأوان

قالها بنظرة ذات مغزى من رجل مستعد ليفنى عمره لتغفر له حبيبته إلى رجل لا يطيق رؤية حبيبته حزينة وهو يضع مالاً على الطاولة يفوق ثمن الوردة ثم خرجَ تاركًا ألعابًا نارية تعيث بقلوب العشاق خلفه

***********

لا أظن أن هناك بداية يوم قد تكون أسعد من خاصة بنون التي ما ان تفتح عينيها حتى تنتفض من فراشها وتذهب لصندوق الرسائل الصغير.. الإرث الثمين الذي تركه برهان قبل أن يختفي

كانت هذه بمثابة مكالمة هاتفيه تربت على روحها وتطمئنها أن هذه المرة ستكون النتيجة مختلفة.. ستكون هي الفائزة

لكن هذا الصباح مختلفًا... كان الصباح فارغًا مثل الورقة التي في يديها، قلبتها يمينًا ويسارًا لا شيء... لا حرف من خطه المنمق ولا حتى نقطة!

-هل يعبث معي؟

التمعت عينيها ببريق حاد وما لبثت أن فضت بقية الأوراق لتجد أنها فارغة تمامًا!!

أصابها الإحباط وظهرَ ذلك جليًا في انطفاء ملامح وجهها، هل يتلاعب بها؟

هل يرد معاملتها السيئة وطريقة ردها الخالية من الذوق الآن؟

بعدما تعلّقت به؟... بعدما نضجت مشاعرها نحوه؟

سيل من الأفكار السيئة غزت عقلها حالما رأت الأوراق بيضاء... لملمتهم سريعًا ثم وضعتهم في الدرج المخصص لهم بجانب الفراش عندما سمعت صوت جدها من الخارج

-بنون الفطار جاهز ليس لدينا اليوم بطوله.

لا تعرف هل من فيض مشاعرها السلبية تجاه برهان وجملة جدها-المعتادة-أكملت عليها أم حقًا هي جُرحت أم الهرمونات التي تتحكم بها لأنها شعرت بلسعة الدموع خلف مقلتيها وكانت على وشك البكاء حتى أتتها رسالة على الهاتف جعلتها تبتلع حزنها وتشق ابتسامة خجلة شفتيها مع دقات قلبٍ عالية

*******

"لي موعد قريب من قمريكِ فهل تفسحين لي طريقًا في سمائك؟"

تحركت أصابعه على الشاشة بحماسة وهو يبعث إليها حروفًا تجمعت لتحكي ما في خاطرة بكلماتٍ منمقة وشوقٍ بالغ برهانًا على مشاعره الطيبة نحوها!

طيبة؟

لو كان الأمر يتمحور حول مشاعر ودودة والاحترام المتبادل بينهما إذًا ما كان عليه إن يُرسل لها هذه الكلمات الحميمية

وإن كانت هذه المشاعر هي الحب الذي يخاف أن يعترف به
فعليه أن يعرف...

أن مشاعر الحب عاصفة، قوية، لا تستكين ولا تختبيء.. لا أن يُخرجها صاحبها للنور بل تثور عليه وتظهر في كل همسة ونظرة، كل حركة وحديث حتى إسبال الجفون سيطرت عليها...

في خضم تعثر دواخله لم ينتبه للذي اصطدمَ به بغتة أثناء سيره محدقًا في هاتفه والذي بالمناسبة يحتضن الأرض مع هاتف الشاب الأخر

-أنا أسف لم أنتبه

نطقَ الشاب باللغة الإنجليزية تظهر فيها اللكنة العربية بحضور، كأن العروبة تفرض سيطرتها أينما نكون حتى في بلاد الأجانب

-أنا أيضًا لا بأس... هل أنت عربي؟

ابتسمَ برهان وسأله بينما يلتقط هاتفه وهاتف الأخر

-نعم أنا من مصر تحديدًا البدو قبيلة.......

لم يكن برهان يستمع لأي من الهذيان الذي يخبره إياه صاحب الوجه الأسمر والذي يرغي ويزبد بينما برهان انفصلَ عن العالم محدقًا في صورة خلفية هاتف الشاب وقد بدأت شياطينه تناديه أن يتخلى عن تحضره وشكله الارستقراطي ويستخدم العنف لأول مرة في حياته ليلكم الشاب الذي تأوه عاليًا وتحدثَ بشراسة

-ما اللعنة التي فعلتها للتو تقابلنا وأنت تضربني في وجهي

-وأصبحت رجلاً وترفع صوتك عليّ بينما لم تفعلها في بلدك في وجه قبيلتك وتحارب لما تريده...

أمسكه برهان من تلابيب ملابسه وهسهسَ أمام وجهه والأخير من هول ما يحدث لم يستطيع أن يتخذ دفاعًا

-خير ما فعلت ... خير ما فعلت يا فراس لأنني من فزت بها وأصبحت الآن ملكي

-أنت ...أنت تعرف بنون؟

نطقَ فراس بصدمه وأنف نازف

غلى الدم في عروقه والتحمت خضراوتيه بنيران جليه لو كانت حقيقية لأحرقته وهو واقف

نطقَ من بين أسنانه وهو يعني مل حرفٍ يقوله
-لا تنطق اسمها على لسانك القذر ولا تدعني أرى وجهك ثانيةً أبدًا
وهكذا أفلته بقسوة ولكن قبل أن يبتعد عنه نهائيًا لكمه في وجهه والتقطَ هاتف فراس الذي ولحسن الحظ بلا كلمة سر وقام بمسح ألبوم الصور الخاص ببنون

ثم ألقى إليه الهاتف، والآن لدى فراس أنف نازف وأعين بنفسجية وهاتف دون صور بنون!

وبملامح لا تبشر بالخير بعد سقوط قناع الهدوء لتحل محله البربرية كان برهان يعدو في شوارع أسبانيا بقلبٍ مُحطم وعروق نافرة وثقة مهزوزة....
********

أين كان قلبي عندما أحببتك؟.

ضيّق عينه ناحية باقة الورد التي بيمينه، وبنظرة تفحصيه لا تتماشى مع هيئته الجدية قرّبها من أنفه وشمها ببطء ورغم خشونة قبضته على النبات الرقيق إلا أن ملامحه لانت بعد جمود تزامنًا مع قوله أمام الباقة ببسمة خافتة
-تُشبه رابحة عندما تكون راضية عني

وسرعان ما هزَّ راسه نفيًا ساخرًا
-والحمد لله لم أشم هذه الرائحة قبلاً لأن رابحة لم ترضَ عني قط!!.... أنا أهذي

أراحَ الباقة مرة أخرى بجانبه وأخذَ نفسًا عميقًا يُهيئ نفسه لما هو قادم، فهو يتوقع عاصفة تستقبله بأمطارها ورعودها ولا بأس من بعض سيول الدموع التي تجعله يخرّ على ركبتيه من أجلها
عدّل معطفه ودخلَ من الباب وعيناه تتجول في أنحاء الشقة باحثة عن آشعة عسلية تستقبله... لكن لا شيء قابله سوى الأثاث
سارَ ناحية غرفة النوم وقبل أن يدخل مباشرةً طرقَ مرتين وحمحم ثم برم المقبض لكن لم يقابله سوى الستائر التي ترفل بفعل الهواء القادم من الشرفة المفتوحة

هنا تعالت دقات قلبه ودقَ ناقوس الخطر داخله ليتهادى إليه صوتها المجروح وهي تقول
"لو ذهبت إليها فلن تجدني عندما تعود... نكون انتهينا"

كزَّ على أسنانه بقوه وقبضته تشتد على غلاف الباقة حتى تجعد، لقد نفذت تهديدها حقًا ورحلت؟
وقبل أن يُجزم كان يبحث في أرجاء الشقة لكن لم يُفضِ بحثه عن شيء سوى احتراق صبره وتفاقم خذلانه

وقفَ في منتصف الصالة يُهدئ أنفاسه، شهيق وزفير بصوتٍ عالٍ لكن لم يزد داخله سوى اشتعالاً، وعندما نفض صبره رمى الباقة على طول ذراعه وهرول ناحية الخزانة وفتحها ليجد ملابسها كما هي.. إذًا كيف هربت؟!
لم ينتظر أن يطرح أسئلة أخرى وخرجَ من الشقة، ينظر في هاتفه ويده تتلاحق على الشاشة ليجد حلاً لمصيبته!

- تبختري يا حلوة يا زينة... يا فلة من الجنينة

تهادى إليه صوتٌ يعرف جيدًا!!، صوت يعزف لحن الموت بأنشودة الوصية الأخيرة

حملقَ فيها وهي تُنفذ الطقطوقة بحذافيرها وتتبختر قدميها على السلالم وخلخالها الفضي -الذي لا يعلم من أين جاء بعد أن منعها منهم-يدب الأرض بدلال
-هذا هو زوجي وتاج رأسي يا حبيبتي أعتذر منك عليّ الذهاب

والمرأة التي تتأبط ذراعها لم يبدُ عليها الاهتمام لما تقوله، يريد أن يتذكر أين رأها قبلاً!... أه تذكر إنها الفتاة التي أحبها فراس وتركها كالنساء لأنه لم يقدر على انتزاعها من بين براثن الأسد ...بنان تقريبًا

لا يعلم كيف كبح نفسه وهو يوميء للمرأة دون أن ينظر إليها ثم يدخل خلف التي أفلتت عقاله وطردت ما تبقى له من منطق وصبر شر طردة!

-أين كنتِ؟
بصوتٍ هاديء ظاهره أردف لتجيب وهي ترفع حاجبها وتستدير له مواجهة
-كما رأيت كنت على السطح مع جارتي؟

-جارتك!! وماذا كنتِ تفعلين مع جارتك هناك؟... ومنذ متى وكيف تعرفينها؟..

تأففت ولم تجبه بما يريد، وأولته ظهرها
-ليس لك دخل.. اذهب لزوجتك الثانية ومارس عليها سلطتك كزوج أما نحن فكما قلت... انتهينا

لم تكد تخطو خطوتين حتى سحبها من ذراعها ليوقفها أمامه وبصوٍ آجش صاح
-عندما أحدثك تقفي وتسمعيني حتى أنهي كلامي وانضجي قليلاً لا تتصرفي بهذا الاستفزاز حتى لا أتصرف تصرفًا لن يعجبك

سحبت ذراعها من قبضته وهدرت بمثل نبرته

-اترك يدي ولا تلمسني ثانية أنا لست الخرقة البالية التي تحتاجها وعندما تنتهي منها تمسح يدك وتلقيها بعيدًا.. وتفضل تصرف هذا التصرف الذي لن يعجبني.. ولمعلوماتك يا سلطان عصرك وزمانك أنت منذ وعيت على الدنيا لم تتصرف تصرفًا في صالحي ويعُجبني...

كانت تصرخ وحمم الغضب تنضح من عينيها، شراستها هذه المرة كانت مجروحة، وكبريائها كان مكسورًا، وهو لم يكن بأهدأ منها بل كان كالليث الثائر وصدقَ هذا في قوله التالي

-صوتك هذا تخفضيه أمامي وإلا ستندمين... هل حقًا تريدين أن نخوض هذا الحديث مرة اخرى؟ ألا تفهمين قليلاً أن هناك بعض الأشياء لا أستطيع أن أبوح بها لأنها ليست ملكي وحدي؟... ألا ترين كم أحاول إسعادك وألا نعود لنقطة الصفر مرة أخرى؟... ألا تفهمين؟ ألا ترين؟

-لا أثق...

تسربت الحروف من بين شفتيها في صرخة مُلتاعة والدموع تترك حدقتيها لتؤازر خديها الس
مشكلتي معك هي أنني لا أثق بك يا سلطان، فعلتها قبلاً والثمن كان قلبي

ورده كان همسًا مُزدان بابتسامة حزينة
-هل يُجبر الإنسان على تذوق مرارة أفعاله مهما حاول أن يُكفر عن أخطائه؟

-صدقني أنا أيضًا أشاركك نفس الكأس لأنني لا أستطيع التحكم بنفسي

بكت، وغطا وجهها بيدها، ثم عادت تفصح عن آشعتها الذهبية يحفها الشعيرات الدموية الصغيرة فتُصبح برتقالية مائلة للغروب

-يمكن أن أحلف أن الموضوع بينكما قد انتهى وأنك لم تفعل شيئًا هناك... لكن لا أستطيع منع الغيرة التي تنهش قلبي بلا هوادة.. أنت تتركني من هنا وسوء ظني لا يكف عن جلدي.... أعلم أنك نادم وتريد أن نستقر في محطة واحدة لكني خائفة أن تزل قدمي عن القطار... دعني أتشبث بك... أريد أن أثق بك يا سلطان

-ما الذي تريدين مني فعله حتى تثقي بي؟.. أو لأقول لكِ أنا... لا لا ... لن أتفوه بشيء... انتظري وسترين بنفسك كلها يومين وستعلمين أن كل ما حدث في صالح حياتنا القادمة

تنهدَ ثم أكمل بوجع

-هذه المرة فقط انتظري وسترين.. لا ينقصني سوى خطوة فلا تثقلي كاهلي يكفيني ما غرزت فيه من وحل

-أنت من جلبته على نفسك.. لذا تحمل نتيجة أفعالك

أغمض عينيه بألم وهي اشتدت قبضتها تريد أن تسحب حديثها

هي لا تعرف ما تريده... وهو حانق على الظروف التي تثقل كتفه، ثأر عمه يُكبله وهي من ناحية أخرى تضغط عليه
يكفيه توترًا من الموعد الذي يأمل أن يمر على خير... كلها يومين ويعرف ما ينتظره

بالتأكيد لم ينقصه هذا العتاب اللاذع لكنها رابحة... فليحترق كل شيء في سبيلها

ورغم ذلك هو ممتن.. كونها تعاتبه هذا يعني أنها لا تزال تهتم لأجله
احتضن يدها في كفه وقبلها

-لن أفلت يدكِ يا رابحة لقد كنتِ وصية جدتي التي لا أردها أبدًا ليس لكوني مجبورًا بل لأنني عاشق... أبتهل نظرة من حدقتيكِ لأعيش يومي الجديد بسعادة

ولكونه رجل احتوى موقفها بحكمة، واحترم غيرتها

-كونك تتحدثي إليّ بما يُمليه قلبك هذا يُسعدني، وعدي لك ألا تزّل دمعه بالخطأ من عينيكِ

-أخر همي هو اسعادك يا سلطان.. فلتحترق أنت ووعودك الزائفة

طعنته هذه المرة بقسوة، راهنَ على غفرانها كما يُراهن أحدهم على قدرة طير في الطيران بعدما ذُبح

قبل أن يترجل من الغرفة ألقى عليها نظرة أخيره لتعاجله هي بقولها

-لا ترجو الدفء من كرامة مجروحة

**********

-أيها السافل أخبرتك أن تأتي وحدك!!

قالها سلطان بغضب وهو يحدج سالم بنظرات ينضح منها الشر حالما وقعت عيناه على أخيه عدي

-هل أنا طفل صغير يا سلطان؟

كان هذا عدي الذي بدا كأنه تلقى الإهانة، أجلى سلطان حلقه واحتضن أخيه بقوة قائلاً

-حاشا لله يا حبيبي أنت سيد الرجال لكن هذا الموضوع بيني وبين سالم لا أريدك أن تدخل

رمقَ السالم الصامت بنظرة ذات مغزى وتلقاها الأخير بنفاذ الصبر كان لديه ما يُكفيه حتى لا يزيد عليه سلطان

-لن أتركك يا سلطان لو على جثتي يكفي كل تلك السنوات أثقلت كاهلك بهذا الحمل وحدك حان دورنا لأن نرفع عنك قليلاً

لم يكن في أحلامه أن يرى أخيه الصغير يقف أمامه هذه الوقفة ويداعب خيوط الرجولة التي تربوا عليها بحرفية!.. عدي؟ الذي هرب حالما ضغطَ عليه جده للزواج من بدور؟... ولو أن سلطان الآن يفهم أن هروبه لم يكن ضعفًا بل كان قمة الرجولة والتضحية لشخص آخـر يـ....

صوت خشخشة ينم عن أخر قطرات عصير تنطلق عبر القشة وكان مُحدث الصوت لم يكن سوى سالم الذي التفت له الأعين فقالَ بعبث يتماشى مع ثيابه القاهرية الذي بدا فيها وسيمًا بسفور

-ماذا...

-لم جلبته معك يا عدي؟

***********




فيما كان يبرع خصمك؟
في سلب القلوب وزرع الضحكات ولهفة الروح...

وسلطان لم يكن خصمًا هينًا، بقدر ما سلب أعطى أضعافًا مضاعفة... فلم لا تغفر؟ لم لا تستكين!!
والجواب كان واضحًا وهي بنفسها لفظته دون أن تدري أمامه
هل حقًا لا تثق؟
فبعدما أثبت حُسن نيته وظنت أنها عادت على العرش ملكة تأجج هذا الشعور بالهزيمة مرة أخرى واجتاحتها موجة الغيرة فور أن أعلن عن ذهابه لزوجته الثانية؟

قامت من مكانها واتجهت إليه وهو يفتح أزرار قميصه، لقد جاء منذ قليل لكنه لم يحدثها ولم يلقي عليها أي كلمة!

التحمت النظرات في المرآة تسرد حكايا القلوب لكن الشفاه أبت أن تُخرجها، فلم تُنفق من حروفها سوى بضعة كلمات

-هل تعدني أن تعود لي في كل مرة؟

قطبَ حاجبيه وشعورٌ سيء يتسلل إليه بعد نبرتها الضعيفة التي لم يعتدها منها، التفت إليها وضم وجهها بين كفيه ناسيًا المواجهة الأليمة بينهما منذ قليل

-لا مكان لي إلا هنا... فقد ضللت الطريق والمسعى فأنا دون أرضك مغترب
كان إبهامه يمر أمام عينيها قاصدًا أن يضع لنفسه موطنًا في حدقتيها العسليتين، ابتلعت ريقها وتقدمت أكثر لكن هذه المرة لتفك أزرار القميص، لكن هذا لم يكن ما رسمَ الدهشة على وجهه بل كانت الدمعة التي بللت خدها

-لم تبكين؟
أمسك يديها لتتوقف عما تفعله، ورفعَ وجهها إليه
-ما الذي يؤرقك يا رابحة؟

هناك شعور قاتل يؤرقها ناحيته.. وهذا سيء لأن هذه المرة اختارت أن...

You are reading the story above: TeenFic.Net