الفصل الثامن و العشرون

Background color
Font
Font size
Line height

-لم تريدين أن تعملي؟ هل ينقصك شيء؟

قالها بجدية يحاورها لتقول هي الأخرى بحسم

-نعم .. ينقصني ذاتي

رفعَ حاجبه بدهشة ثم أردف

-ماهذه الكلمات الغريبة؟ من أين لكِ هذه الأفكار

زفرت بضيق وهي تراه يستهزيء بها لتهتف وهي تطبق ذراعيه لصدرها

-أرأيت!!! أنت تسخر من كلامي لأنني لست متعلمة مثلك

رقت نظراته نحوها وبدأ يستشعر الموقف، هي تشعر بالنقص لأنها لم تنل التعليم كفاية لذا تريد أن تحس بأهميتها في شيء، أنها ليست مجرد زوجة وابنة.. تريد أن تتذوق حلاوة الانتصار

التقطَ يدها بين كفيه ولثمه قبل أن يحاوط وجنتيها ويقوم بالمثل، وعند شفتيها لم تنل قُبلة بل همسة أذابت قلبها الذي هو أساسًا منصهر من حرارة عشقه لها

-إذا أردتِ العمل فلكِ ذلك.. لكن رأيي هو أنكِ قائمة بذاتك يا رابحة... أنا أحبك وأنتِ هكذا... بدور تبحث عن القوة فيكِ، والدتك تتمنى لو أنها مثلك، خنساء كانت تغار منكِ، حتى أعتى الرجال لم يقوُ على مقاومة عقلك... وجدتك

ارتجت شفتيه عند هذه الجملة وهو يرى الدموع تلتمع في عينيها

-جدتك كانت لتكون فخورة بحفيدتها... كل هذا وتبحثين عن ذاتك في أشياء أخرى انتِ حققتي أفضل منها!

هذا الرجل لا ينطق بكلمات بل يعزف الألحان بشفتيه!

هذا الرجل يعرف كيف يخمد نيرانها المشتعلة، فبعد حديثه الهادئ شعرت بالفخر والأنوثة لحديثه، نعم يكفيها نظرة هؤلاء... لكن ماذا عن نظرته هو!... ماذا يفكر فيها؟... كيف!!

ومهما تحلّت من ثقة تبقى نظرة رجلها لها هي ما تحرك شعورها كأنثى

شعرَ بالظفر داخله وهو يرى تبدل ملامحها لتنزوي في ركن التفكير، كان على وشك أن يختطف قبلته التي فصلها الحديث لكن ضيّق عليه رنين الهاتف الذي صدحَ برسالة

التقطه وياليته ما فعل!

فقد كانت قريبة للحد الذي جعلها تقرأ الرسالة التي كانت من ياسمين... لا هذه ليست المعضلة الأنكى هو فحواها الذي أطارَ بعقل رابحة

"حسنًا يا سلطان أنتظرك في الرابعة"

ليتها كانت تلك القاضية، لأن هذه الرسالة لم تأتي من العدم هكذا! بل كانت ردًا على رسالة سلطان الذي كتب سلفًا

"أريد مقابلتك غدًا...."

——————————————-

هي التي لم تهتم بالاستيقاظ باكرًا إلا لتناول الفطور مع جدها أصبحَ شغلها الشاغل هو أن تفتح عينيها وتمد يدها للدرج بجانبها وتُخرج الرسائل تفتحها بلهفة ثم تتذوق عيناها الحروف بنهم...

ورغم أن التجربة الأولى كانت مُخيبة للآمال.. قليلاً إلا أن للرسالة الثانية نغمة حانية تراقص قلبها في تهادٍ

"محظوظ من يملك حرارة الروح لتذوب لأجله عيناكِ..."

ثم؟

هكذا فقط!!

البقية يااااا....

قلّبت الورقة يمينًا ويسارًا، حتى الظهر لم تجد فيه نُقطة حتى!.. زفرت بضيق وهي تمط شفتيها بامتعاض وتقوم من على الفراش، تارة تبرطم بحنق عن قصر الرسالة وتارة تبتسم بخجل لفحواها وقد كان الشق الاخير هو ما يشغل حيزًا يُدغدغ قلبها برقة

-صباح الخير

خرجت من غرفتها لتجد الجميع على طاولة الإفطار وهي التي امتنعت عن المكوث معهم في مكانٍ واحد أخذت كرسيّ بجانب تميم ثم شرعت في تناول الخبز وتغميسه بالطبق أمامها تحت نظراتهم التي لم تصدق أنها بينهم تأكل وتلقي التحية أيضًا!!

-صباح النـور يا غالية

تحدث سليمان بصوته الرخيم لتُجيبه بنون بإشراق

-صباح النور أغلى سليمان

-وهل يوجد سليمان غيري؟

شاكسها على غير العادة أمام أمها وأخيها لتستجيب بضحكة واسعة وهي تردد

-ولو وُجد ستظل الأغلى والأقرب لقلبي

يُتابع هذه المحادثة الشيقة عينان، تتوقان لنيل نُطفة من هذا الشعور الدافئ، نبرة الاهتمام، وحُرية المشاكسة... لكنها بنون لا يستطيع أن يتحدث إليها ومزاجها رائق فكيف وهي تخاصمه وتنتبذه؟

-ناولني هذا الطبق بدلاً من تحديقك فيّ بهذه النظرة... هل ستأكلني يا ولد؟

حملقَ فيها مشدوهًا لما توجهه له من حديث تشوبه المناغشة، امتدت يده لا إراديًا لتقرب الطبق بينما هي هزت رأسها نفيًا وهي تُشير إليه

-هذا الولد أنا أكبر منه ويعاملني كما لو أنني أماثله سنًا

... عيب هذا الزمان أن لا صغيرًا فيه يحترم الكبيـر

تبدّل وجه تميم من المشاعر التي اندفعت بقوة تهاجمه ولا تترك له مجالاً للاستيعاب.. فهذه بنون تمزح معه كما لو أنهما مقربان وهي لا تخاصمه! و بينما هي تتبادل الضحكات مع جدها أردف هو بصوت محتقن بالعاطفة المدفونة

-انتِ أكبر مني بدقائق

رفعت حاجبها باستنكار وأجابت تلوك لقمتها

-لا يحق لك أن تحدثني بقلة رسمية.. يكفي أنني أمنّ عليك بالجلوس جانبك..

أطلقَ تميم ضحكة ساخرة ملء شدقه وترك رغيفه ليلتفت لها بكل جسده

-تظنين نفسك شيئًا وأنتِ لا شيء... انضجي

رمقته من رأسه لأخمص قدميه بنظرة مُتعالية، شمخت برأسها وهي تقول

-لن أدخل في نقاش مع واحدٍ من عامة الشعب مثلك

-أيتها الـ...

لم يُكمل جملته إذ صدح صوت سليمان في المكان مكبلاً الحروف على شفتيه، ليقول الجد بلهجة صارمة لم تخلُ من مزح

-هل سوف تتراشقون بالألفاظ أمامي؟... ليكن من وراء ظهري لكن ليس أمامي!!

وهكذا كان جو الإفطار مرحًا بين بنون التي استيقظت اليوم راغبة في عيشٍ بسيط وتميم الذي لا يفهم شيئًا لكنه سعيد لأنه استعاد أخته

وسليمان الذي استعادهما هما الإثنان!

-يبدو أن مزاجك رائق اليوم لتختمي إفطارك بكوبٍ من الشاي بالنعناع

تحدثت أمها بنبرة يطغى عليها الحنان متأملة أن يجري الحوار سلسًا كما هو عليه لتُجيب بنون باقتضاب

-لا شكرًا سأكتفي بالشاي بلبن مع جدي في الشرفة

وهكذا قامت من على الطاولة بملامح قاتمة بعد أن نشرت بهجتها، في حين انزوت أمها على الكرسي ولم ترد فقط تنظر لها بحسرة وندم!

وبعد عشر دقائق كانت تجلس مع جدها في الشرفة أمامهما كوبين من الشاي بلبن يتصاعد منهما البخار

-لقد اشتقت لهذه الجلسات.. لا أخرج منها إلا بروحٍ جديدة

ابتسم سليمان لتنكمش تجاعيد وجهه أكثر

-عودًا حميدًا يا حبيبة جدك..

صمتا ولم تمر دقيقتين حتى سمعا صوتًا عاليًا من الشرفة المجاورة لهم

تنهدت بنون ويزور فمها ابتسامة خفيفة

-كان الله في عون هذا الرجل لا تكف زوجته عن الصراخ يوميًا، لا أعلم كيف يحتمل طبعها!

أجاب سليمان ونظرته تصب في جوفها مغزىً تدركه

-لا تلقي بالاً لشجار الجيران، فربما هو لا يعاملها جيدًا... وربما أخرى هي تفعل هذا لتحوز على انتباهه... لكل بيت أسلوب وليس بالضرورة أن الصراخ يكون مشاجرة.. ربما هذه هي طريقتهما في الحديث.. المهم ألا نتدخل

خفضت بصرها بحرج وتمتمت بخفوت

-نعم.. بالتأكيد

لم تمر سوى خمس ثوانٍ حتى صدح صوت المرأة وهي تقول بعنفوان

-طلقني.....

مما جعلَ بنون وجدها يكتمان الابتسامة التي شقت الشفاه ليس للشماتة ولكن لطرافة الموقف

——————————

-أخفضي صوتك واهدئي لتفهمي

هزت رأسها نفيًا والغضب يؤجج مُقلتيها بالاشتعال، صرخت في وجهه وهي تُجابه عينيها بعينيه

-لن أفعل.. بل اسمع انت.. طلقني لأنني لن أعيش معك بعد الآن

مسحَ وجهه بكفيه وهو عالق في فجوة زمنية اسمها "الفعل" و "ترجمة رابحة" حينما يقع الفعل يأخذ الناس طريقًا منطقيًا لاستيعابه ويفكرون في أكثر الطرق سلمية!

إلاها!

سيكون عليها طارًا إن فكرت باعتيادية وتتبعت خيوط الموقف لتصل لنهاية مُرضية... يجب أن تتخد الطرق المتعرجة وأكثرها انحدارًا..

لا تفهم.. لا تسمع... لا تفكر!

فقط تصدر الأحكام مُسبقًا دون أن تسمع الشرح

ولكـنه...

-أنا أعذرك في ردة فعلك تلك فماضيي معك لم يكن حافلاً بالثقة

ارتفعَ طرفي شفتيها في ابتسامة ساخرة لم تلبث أن خبتت لتمتزج بقتامة وجهها في تلك اللحظة..

- تبعث رسالة لزوجتك الثانية التي لم تطلقها حتى تقابلها وتريدني أن أثق بك؟... إن كانت هذه الثقة التي تتحدث عنها فاعذرني .. أنا لا أجيد المصافحة بينما أتخيلك مقتولًا!

ابتسمَ وكلماتها لم تداعب سوى حواسه.. هل تتوعد بقتله؟.. هذه الهرة أصبحت شغوفة بالإجرام منذ أن هجرته

قطعَ هو المسافة الفاصلة لترتد هي للخلف تلقائيًا لكنه ثبتها أمامه حتى لا تهرب يكفيها هربًا منه...

أخذَ نفسًا عميقًا  ثم أحكمَ قبضتيه على كتفيها متجاهلاً ملامحها التي توحي بحدة وشراسة كما اعتاد منها... مُقلتيه تأسر شمسيها في لقاءٍ دافيء وحاسم.. ثم بنبرة رقيقة، حازمة أصبحت لا تفارق لسانه منذ أن عاد إليها

-الأمر وما فيه أنكِ الوحيدة التي تسير في أروقة قلبي بلا منافس ولا منازع.. ربما انحرفَ عقلي قليلاً لكن قلبي لا يزال متشبثًا بك

أمسكت نفسها وملامحها تلين لتعود لوجهها الخالي من التعابير فيما هو أكمل عندما أخذَ صمتها كإجابة

-لذا فاستمعي جيدًا لما سأقوله لأنني لن أعيده

والماكر سحبها من خصرها حتى اصطدمت به لتشهق بخفة قبل أن يعاجلها بينما يمرر يده على وجهها برفق

-ثقي بي هذه المرة.. عليّ مقابلتها.. ولا أستطيع أن أخبرك حتى ينتهي كل شيء لا أريد توريطك

هنا عادت الشراسة تستفحل داخلها مع أخر كلماته، نفضت يده عنها وقد أحست بالغدر في تلك اللحظة.. ما كاد يطلب قربها حتى بنفس ذاك اللسان يبتعد!

تحدثت من بين أسنانها والشموخ لا يفارق حروفها كما نظرتها، وبثباتٍ قالت

-لو ذهبت إليها فلن تجدني عندما تعود... نكون انتهينا!


You are reading the story above: TeenFic.Net