الفصل الثامن

Background color
Font
Font size
Line height

الفصل الثامن
ورزقك ليس ينقصه التأني، وليس يزيد في الرزق العناء... الإمام الشافعي.

(قبل أسبوعين)
(اليوم الأول)
(المستشفى القسم النفسي)
دق رأس عكازه بالأرض يخاطبها بجدية، وهو ينظر إليها بتمعن (اسمعي يا صغيرة!) اتسعت مقلتاها حتى ظهرت العروق الرقيقة الحمراء على شكل أغصان شجرة في غمرة خريفها تشوه من صفاء بياضهما. (أعرف أنك ذكية بل داهية، ففكري فيما سأقوله لك جيدا، أنا طبيب نفسي محترف والذين منحوني درجة بروفيسور بالتأكيد لديهم سبب وجيه وهو أنني بارع في عملي...) زم شفتيه ثم تابع دون أن يطلق سراح نظراتها الحادة (أنا أعرف عن حالتك ما لا تعرفينه أنت، فانظري إلي وأخبريني صراحةً هل تريدين استعادة السيطرة على جسدك وحياتك؟) حدقت به بتوجس امتزج برفض وشك، فاقترب من سريرها أكثر يردف بحزم صادق (لا تهربي وواجهي واقعك، أنت قوية ولا تخشين أحداً عادة، فماذا استجد؟) لا شيء سوى الصمت، والنظرات الضائعة، فزفر بضجر يستقيم مستديرا عنها حين تجمدت خطوته وصوتها الحاقد لأول مرة يفقد علو نبرته، ويتخلله بعض الحزن (سأفقد وعي، وأجد نفسي ضيعت كل شيء من جديد.) التفت إليها يحدق بها بحذر، وهي تكمل بتحسر (أنت لن تفهم أبداً معنى أن تفقد السيطرة على نفسك، أحلامك، أهدافك، تصرفاتك وحياتك بالمجمل.) ألغى المسافة بينهما في ثانية، يواجهها بحزم (بل أنا أفهم، قد لا أكون المعني لكنني أفهم جيداً ودقائق التفاصيل، لأنني سبق وعايشت من كانت في مثل حالتك، هل تريدين أن تعرفي الفرق بينكما؟) لمح بعض الاستجابة من ملامحها التي بدأت تفقد حدتها، حين خطا إليها الفضول باستحياء فأكمل بمرارة تجسدت بتعبير مثير للرأفة داخل عينيه (الفرق أن لديك فريقاً طبياً بدلاً من طبيب واحد مستعدين لمساعدتك بكل ما يملكونه من تجربة ومعرفة، أما هي فلم يكن لديها أحد سوى زوج وابن محبان لم يفهما ما بها حتى فقداها بعد أن تركت في قلبيهما وجسديهما جروحا لا تلتئم!) صمتت بجبين مجعد ممسكة بطرفي الفراش، وظهرها يلتصق بمسند السرير الحديدي فاعتدل مستقيما بظهره، وتوجه إلى الكرسي يسحبه إلى جوارها ثم جلس عليه كعادته رجله المعطوبة على الصحيحة، يخاطبها بهدوء وهو يلهو برأس عكازه (لنعد إلى البداية، متى أول مرة غبت فيها عن الوعي؟) تشنجت أطرافها وغاصت ملامحها بالألم فتقبض على يديها بقوة بينما ترد عليه بتردد (بعد موت عمي بأسبوع.) زم شفتيه بترقب يومئ لها وسألها مجددًا (عمك الذي شنق نفسه؟) لم تندهش من معرفته، تهز له رأسها بوجوم، فأردف بحذر وهو يرفع عكازه يتفقده (كيف أقنعت زوجك بأن لا يقربك؟) احتد تنفسها كما تغيرت قسمات وجهها من الوجوم إلى القرف فرفع رأسه إليها حين تأخر ردها ثم قالت له بتشف (لم يكن واعياً..) ابتسم البروفيسور بلؤم متعمد رغم صدق فضوله (كنت متأكدا من ذلك، هلا أخبرتني كيف؟ فضولي سيقتلني.) جعدت ذقنها وأعلى أنفها بينما تؤنبه بنزق (أنت أكثر فضولاً من*شَطُّوا*!) قفز حاجباه متسائلاً بدهشة (من؟) فمطّت شفتيها ترد عليه بجفاء (صاحبة أكبر فرن * خبز تَنُّورْتْ* في المدينة، والواجهة لمركز الأخبار المحلية.) ضحك البروفيسور ببرود ساخر (ظريفة! هل ستخبرينني أم ماذا؟) تلونت ملامحها فجأة بمكر وراوغته بذكاء (لن أخبرك، اسألني شيئا آخراً.) أمال رأسه يكبت بسمة فرضت نفسها على جانب ثغره، ورفع كفه يمسد لحيته (مممممم .... وما قصة الخطيب الأول؟) تفاجأ من شفتيها المضمومتين تخفي بهما بسمة بدت له مرحة، ومثيرة للشفقة وسط تعب ملامحها وما يسكنها من تعبير اليأس (ذاك المتحذلق، رفضته والتصق بي كالعلقة لأجد نفسي يوما خطيبة له!) ثم اختفت البسمة وهي تكمل باشمئزاز (وظن بأنه امتلكني، لكنني لقنته درسا لن ينساه ما حيي، ولا أظن أنه سينسى الكلمات التي قلتها للشاب الآخر، أنا من رتبت لكل شيء.) تحدث إليها البروفيسور بهدوء لا يشبه ما في صدره من حماس لتجاوبها معه (لماذا رفضته؟ هل يمكنك إخباري؟) أومأت بينما تتشكل العدائية على وجهها ونبرة صوتها (شاب عابث لا يستحي! ظل يطاردني لسنة كاملة يريد صحبتي وحين رفضت، تحول عرضه السافل لخطبة، الجميع يظنون أنه يعشقني ويريدني للزواج حقاً، ووحدي أعرف ما يريده حتى قبل أن يؤكد لي ذلك صديقه الذي هو قريبي... الغبي لم يكن يعرف ما أستطيع فعله حين يثار جنوني!) صاح البروفيسور باسما بإعجاب متعمد يحفزها (فتاة قوية!) سرّه ارتياحها له بعد تشجيعها فاستدرك (وماذا عن الخاتم؟) فسارعت تعاتبه بعبوس (لقد وعدتني بإحضاره ولم تفعل!) أمال وجهه كما رفع أحد حاجبيه يشاكسها بتهكم (وأنت لم ترضي فضولي فيما أردت معرفته، نحن متعادلين إذن!) نفخت بامتعاض فابتسم بمكر يسألها (هل تريدين نفس الخاتم أم أن أي خاتم يشبهه يفي بالغرض؟) رمقته باهتمام تفسر له في لحظة خانها فيها ذكاؤها ... ربما (المهم أن يكون كبيرا كفاية ويستجيب لأدنى لمحة ضوء.) ضيق مقلتيه لوهلة قبل أن يهجم الإدراك على خلايا فكره يهتف بدهشة (انعكاس الضوء عليه يمنح المخ لديك تنبيهاً فيستيقظ! هل هكذا كنت تستيقظين؟) عضت شفتها تحدق به عابسة وكأنها خانت نفسها، فرفع قدمه بروية يعيدها على الأرض ليميل نحوها قائلا بتقرير (كان يجب أن أفهم ذلك حين تحدثت عن شخصيتك الوهمية، أنت تعرفين بمصابك ...أليس كذلك؟) احتد تنفسها كمن انكشف وهو يكمل بظفر رافقه بصفعة من راحة يده على ركبته (طبعا ...فأنت كنت تستعدين للالتحاق بكلية الطب، كيف فاتني ذلك؟) ثم رمقها بتساؤل مقتضب (الإنترنت؟) قطبت جبينها تومئ له، وهي تضيف بتلبك (ومراجع قديمة كنت أكتريها من صاحب احدى مكتبات المدينة مقابل مساعدته يوم الجرد.) تألق التقدير الصادق في نظراته قبل أن تتحول لتوجس بينما يطرح عليها السؤال الملح (زوجك! حبوب منومة؟ وكيف حصلت عليها؟) ضمت شفتيها تتهرب منه بمقلتيها، لتزيد من مفاجأته بالذنب يملأ قسماتها وهي تجيبه بخجل (أجل مع القليل ...من...) جمعت بين طرفي سبابتها وإبهامها (نوع من المخدر، القليل فقط أقسم لك!) هتف بتأنيب (تقسمين! ماذا لو أدمن المخدر؟) عبست بغضب تدافع عن نفسها (أخبرتك بأنني استعملت القليل فقط فتختلط عليه الأمور... ثم هو يستحق فلا تشعر بالشفقة عليه!) عاد يستند إلى كرسيه يمسد لحيته يستفسر منها بحذر، فهو لا يريد فرارها مجددًا (هل كان خائنا كما قلت؟) حركت رأسها بوجوم ترد عليه باشمئزاز (لقد رفضته هو الآخر لأنه بدأ نفس بداية الأحمق السابق، لا أعرف لماذا يظنون بأن الفقر سيجعلني مداساً لأرجلهم القذرة!؟) عبست بمرارة ثم تابعت (رأيته أول مرة في عرس شقيقتي سمية، فهو صديق زوجها!) لمح البروفيسور مدى قرفها ولا يظنه موجهاً فقط لزوجها، وهي تكمل (حاول التقرب مني لكنني تجاهلت نظراته الظاهرة للعيان حتى واجهني مباشرة يطلب مني التعرف إلي لأنه معجب بي، طبعا أنا رفضته لأنني لا أتحمل أمثاله وأعرف ماذا يقصد جيدا بفترة التعارف تلك!) صمتت فرفع كفه يحركها في الهواء (وماذا حدث بعد ذلك؟) قلبت شفتها السفلى بحسرة، تجيبه بحزن (فقدت وعي وحين استرجعته كان قِراني قد عُقِد ولم يتبق سوى يومان على زفافي.) أومأ لها بغضب جارف من أجلها يكبته داخل صدره فلم يظهر منه سوى بسمة باردة، وهو يسألها بجمود (وكيف حصلت على الأدوية؟) ابتسمت ساخرة تلونت بها نبرتها بمقت (من فضلك ...أيها ال... بروفيسور، أنت تهينني بسؤالك هذا!) ما يزال على بسمته الباردة مُقِرا بجفاء (فعلا، أنا أهينك وأعتذر إليك عن ذلك، أظن أنك اكتشفت خيانته كما اكتشفت نية الأحمق الأول!) اكتسح الدفء صدره حين انبثق الأمل في بؤبؤي مقلتيها، تقول له ببسمة غيرت من ملامح وجهها التعب (أنت تصدقني!) رغما عنه أسقط عن وجهه جميع التعابير المتعاقبة عادة بسرعة مربكة لمن يحاوره، لتبقى بسمة صادقة مشعة بالإشفاق والحنو بينما يجيبها بثقة (طبعا أصدقك، وكيف سأعالجك إن لم أفعل؟ أنا لست أهلك يا مريامة، درست لسنوات وما أزال أبحث عن كل معلومة الصغيرة قبل الكبيرة، وحضرت تجارب علاجية لا تعد هنا وفي الخارج مع أطباء نفسيين وأخصائيين في علم النفس مبتدئين وكبار حتى أنني حضرت مع المقرئين جلسات الرقية لمختلف الحالات، وتجاوزت ذلك إلى الدجالين فقط كي أجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات وأبين الصحيح من الهراء، وبفضل الله بتّ ألمح الصواب قبل أن أتأكد منه، لا أنكر أنني أخطئ في بعض الأحيان فأنا بالنهاية بشر، لكنني تعلمت وضع كل الافتراضات الممكنة والمعاكسة مع اتباع احساسي.) هزت رأسها ترجوه بحزن (هل أنت واثق بأن هناك علاج لدائي؟ ما قرأته حين شككت في أمري أصابني باليأس، لأنني أيقنت من أن لا أحد من عائلتي سيفهم مصابي ولا سيدفع ثمن علاجي، إلا والدي لكنه لا يملك المال.) وقف على رجليه يدس كفه الحرة في جيب سرواله مجيبا بنبرة مشجعة (إن شاء الله هناك علاج، ولو لم تسبقني الدكتورة طائعة بدفع تكاليف المستشفى لكنت فعلت ذلك، فالدنيا ما تزال بخير يا مريامة، وآمني بالله الشافي العافي والرحيم بعباده!) ابتسمت بتأثر تهمس بشرود (تلك الفتاة دائما طيبة القلب، ونقية الروح، لا أفهم كيف تجاهلها والدها كل تلك الأعوام؟) رمقها بترقب وهي تنظر إليه مستطردة بامتعاض واجم (هل تعلم بأنها كانت تذهب لرؤية والدها من بعيد كل يوم خميس؟ كانت لدينا حصة شاغرة بين الحصص صباحاً، فاستغربت تسللها من الإعدادية على غير عادتها فتبعتها يوما ورأيتها تنزوي بعيدا بدراجتها أمام الثانوية، تراقب والدها وهو يأتي ليقل
ابنته الأخرى.) تجمدت ملامح البروفيسور، وهي تكمل بنفس الامتعاض (وكانت تبكي بينما تراه يضم الأخرى بحب ويضاحكها، فأتساءل كيف لرجل أن يكون بتلك الأنانية؟ فوالدي مهما عانى من الفقر والجهل لم يتنكر لأحد من أبنائه قط، ففكرت بأن الوضع مختلف ربما لأن طائعة ابنته من زوجة أخرى... الله أعلم!) تنحنح يلجم النار التي شبت في صدره، وتجاهل الأمر معقبا بهدوء ظاهري (ارتاحي الآن! وسأحضر لك كتبا مناسبة لتقرئيها وخاتم بنفس نمط القديم، واعلمي أن أهم ركائز علاجك تشجيع شخصيتك الأصلية في الحفاظ على وعيها فحاولي التفكير في كل شيء تحبينه أنت، وإن شعرت بالشك يغزو صدرك بأنك ستفقدينه مجددًا تذكريني أنا وطائعة بعد الله وتيقني بأنه من أرسلنا إليك لتعرفي بأنه لم ينساك فتشبثي به بدلاً من أن تعصيه بقتل نفسك وحرمانها من رحمته.) سالت دموعها وتلونت نظراتها بعقدة الذنب فاستدرك بمهادنة أصبغت على نظراته العطف والرأفة (أعرف بأنك تصرفت بدافع اليأس لكن رحمة الله واسعة لا تذر لليأس مكاناً في قلب المؤمن... آمني بذلك يا مريامة.) تلكأ ثم أضاف بصدق شعت به نظراته المتطلعة إليها بإشفاق (أمنحك وعدي ووعد طائعة حتى إن لم تكن شاهدة الآن، لن نتركك مادام في صدرينا نفس، هل فهمت يا مريامة؟) أومأت له بانبهار تتابعه بنظراتها التي تخللها بعض الشك رغماً عنها، وهو يكمل بحزم (أما ذاك الأحمق فستنفصلين عنه، ولن تفعلي شيئا لا تريدينه بعد اليوم حتى إن استولت على وعيك الأخرى، سنعيدك بإذن الله ... اتفقنا؟) أومأت له بأمل شع من مقلتيها اللتان وكأنهما ضجتا بالحياة من جديد بينما هو يكمل حديثه قبل أن يستدعي الممرضة لينصرف (كنت مقاتلة شرسة وأتمنى أن تبقي على نفس الشراسة لكن في الاتجاه الصحيح، ثقي بالله قبلنا وادعيه بالتوفيق والشفاء، فهو لن يتركك أبداً، سأذهب الآن، وسأعود مساء إن شاء الله لأطمئن عليك.)
***
(بعد نهاية الدوام)
ظهرت خلف الباب فابتسم لها ببنما يصغي لنبرتها المداعبة لأذنيه (هل نغادر؟) هز رأسه وسحب حقيبته متوجها نحوها ثم مال على وجنتها وقبلها بخفة فتأبطت ذراعه وهما مغادرين. جعدت جبينها حين اتخذ طريقا غير وجهة منزل العائلة، فسألته بحيرة (ألن نذهب إلى البيت؟) التفت إسماعيل يجيبها ببرود أرجف قلبيهما معاً (لا، نحن اتفقنا على التحدث، وما سأبوح به له مكان محدد يجب أن أعود إليه.) أومأت له بريبة، وعادت تنظر أمامها تتأمل المكان الذي توقفت فيه السيارة. ضم كفها ما آن ترجلا من السيارة مشيراً إلى بناية على شكل قصر من الرمل الأحمر، اهترأ جُلُّه، فشهقت بخفوت من انبهارها؛ فتلك القصور تسمى في عرفهم ب *القصبة* يسكنها أصحاب المال والنفوذ قديما، وأغلبها بقيت خالية من ساكنيها أو تحولت الى متاحف و مزارات. سحب من جيب سترته مفتاحا كبيرا أثريا من المعدن الثقيل، ودسه في مكانه على البوابة الخشبية الخارجية.

خطت برفقته ممسكة بكفه وعيناها تتعلقان تفحصاًً بالصرح الخالي بوسعه والذي ينم عن فخامة كان بها وولّت فلم يبق منها سوى أطلالاً كما يندثر كل شيء مع مرور الزمن سوى خالق الزمن وكل شيء.
بلع الغصة في حلقه، ونظر إليها يستجدي بعضا من دفئها لتنقذه من برودة المكان اللاحقة به أينما رحل كما تلاحقه ذكرياته السوداء (أنا ولدت وكبرت هنا إلى أن...) ضغط شفتيه إلى بعضهما، فلمست ذراعه تخاطبه بحنو (لا تتحدث إن كان ذلك سيتعبك.) تأملت رأسه الثابت كملامحه المنحوتة بجمود، لا يفضح توتره سوى ارتفاع وانخفاض صدره، فرفعت يديها ترخي بهما ربطة عنقه، فتحدث إليها مستسلما لها(لا أعلم إن كان الحديث سيريحني مع أنني لطالما آمنت بذلك وأنا أطلبه من المرضى، لكن البروفيسور محق، بيننا أنا وأنت لا يجب أن تبقى هناك أقنعة تحول بيننا.) أبقت كفيها على صدره تطالعه بحزن تشبعت به نبرة صوتها (أنا...) قاطعها بألم فاجأها برؤيته واضحا عبر صفحة عينيه خلف بلور نظارته الطبية (أنا لا ألومك طائعة، هناك آلام في حياتنا تترك أثرا يصعب محوه داخلنا فنخفيه عن الجميع.) زفرت بوجوم، وهو يغطي ظهر كفيها على صدره مستطردا (هذا البيت الواسع شهد أحداثاً تميزت بالفخ، الفرح والسعادة ثم الحزن، الموت والخزي.) تشكل الوجع بحرقة على وجهه، وهو يسترسل بلهفة كما لو كان حجرا يثقل على ظهره، يتوق للتخلص منه (أنا مثلك طائعة لم أحظ بأب يرعاني، قد يقتصر افتقادك للأب على خلو حياتك من وجوده لكنك على الأقل لم تفقدي احترامك وما تزالين تتأملين التعويض منه يوما ما أما أنا..) همت بسحب كفيها كي تمسك ذراعيه، لكنه منعها يشد عليهما بقوة فوق صدره، وهو يكمل دون توقف (أما أنا فقد فقدت فيه كل شيء على مر الزمن، القدوة، الحب، الحنان، الاحترام والود. وبعد ما فعله في الآونة الأخيرة أصبحت أكرهه! لقد اكتشفت أن رغم قسوته في الماضي والتي تَحَمَّل منها إبراهيم ما لم نكن لنستطيع تحمله، ومع كل جرائمه من الخيانة والتهريب أنني لم أكن أكرهه على قدر ما كنت غاضبا منه.) اتسعت مقلتاها حين لمحت اللمعة تحت عويناته الطبية، وهو ينهي حديثه بحقد امتزج بعذاب (أن يقسو الوالد على ولده أو حتى يضربه أمر، وأن ينوي قتله والتخلص منه لأجل مصالحه أو لأي سبب بائس آخر أمر آخر! لقد كرهته يا طائعة ...كرهته وبشدة!) هادنته بالقول الرقيق (اهدأ إسماعيل من فضلك! تعرف أن هناك من البشر من غلبت عليه شقوته، كما هناك العكس وأنت كنت محظوظاً بجدك كما كنت أنا أيضا.) باغتها بنبرة يقطر منها الوجع كقسماته المتشنجة (وهل كان ذلك كافيا يا طائعة؟ هل اكتفيت بذلك حقاً؟) صمتت تتلفت بعينيها فشد على كفيها يحثها (أخبريني؟) زمت شفتيها قبل أن تجيبه بحزن (وضعي يختلف عنك إسماعيل فأبي كان أمامي، أراه وهو يمنح أبوته وحنانه لفتاة أخرى يخصها بكل شيء حرمني منه لمجرد أنني لست شقيقتها.) قطب جبينه مسترجعا انتباهه يرمقها بحيرة، فتسابقت الكلمات من فمها مع الدموع من مقلتيها (كنت أتسلل إلى الثانوية التي تدرس فيها أختي بعد أن عرفت من أمي وجدي قصة زواج والداي وأن لي أخت تكبرني بسنتين، فلقد استغربت اهمال والدي لي، وأنا أعيش معه في نفس المدينة حتى وإن كنت في حي على الضواحي، فذهبت لكي اراها وأفهم شيئا ما، وكنت أبحث فيها عن الاختلاف بيننا كل مرة ألمحه يضمها أو يقبلها ثم يقف مراقباً لها ببسمة حانية إلى أن تغيب خلف بوابة الثانوية....كنت...) صمتت فضم وجهها يمسح دموعها بإبهاميه يعتذر إليها بلطف (أنا آسف!) أومأت له ودموعها لا تنحسر، ممسكة بكفيه على وجهها بينما ترد عليه بنبرة متهدجة (لا مجال للمقارنة بيننا إسماعيل فوجعك أكبر، أنا ورغم كل شيء لم يتعد الأمر إلى جرائم وطغيان لكن ومهما كان الوضع مؤلماً يجب أن تتجاوزه، لا تدعه يسلبك حاضرك ومستقبلك كما سلبك ماضيك.) رفع رأسه ناظراً إلى السقف، يتنفس بعمق وتركها ليبتعد عنها خطوة، فراقبته وهي تمسح دموعها وتحاول تمالك نفسها، غير مصدقة بأنها أخبرته بما لم تتجرأ حتى على الاعتراف به بينها وبين نفسها، ربما خزيها من تصرفها ألجمها، فهي لم تكن تعلم حتى لماذا كانت تذهب كل مرة لتراقب والدها وأختها، وتعذب نفسها حتى أدمنت تلك المشاهد بينهما، وفي النهاية اكتشفت بأن نفسها التواقة أضحت تجد في رؤيتهما معاً بعضاً من عزاءٍ تجهل كنهه.
تنبهت إليه بينما يرفع يده يشير إلى البهو الكبير قائلا بوجوم رحلت به النظرات إلى ماضٍ مؤلم (هناك كان يجلس بفخر جوار جدي وجده حولهم أعمامي، وسادة رجال المدينة، وجميعهم يهابونه حتى أكثر من جده ووالده.) ثم أشار إلى رواق مهجور، لا تعلم الى أين يفضي مستطرداً بنفس النظرات الغائرة (وهناك كان ينهي شجاره مع أمي حين يخرج من جناحهما وتتبعه كعادتها باكية!) ثم أشار إلى باب في آخر رواق آخر، يستدرك باشمئزاز (وهناك كان يسحب إبراهيم يتجه به إلى الملحق كي يعاقبه خفية عنا بحجة أنه البكر ومن سيتحمل المسؤولية معه ...ومن بعده!) أسقط يديه إلى جانبه ثم نظر إليها يكمل بجمود تصلبت له ملامح وجهه (حين قرر إبراهيم رحيلنا عن هنا، سُعدت بذلك وظننت أنني سأترك كل الذكريات بين جدرانه المتهالكة لكنها لاحقتني في صحوي قبل منامي.) بلل شفتيه بتمهل وهو يفكر في شيء ما أمام نظراتها المدققة به تمحيصاً بصبر ثم أضاف (هل تعرفين متى أول مرة لم أر فيها كابوسا من الماضي في أحلامي....) تلكأ ناظراً إليها، فرمقته بتساؤل دفع به الى الاقتراب منها حتى وقف أمامها، يستطرد بحنين (أول تقارب بيننا.) زحف الاحمرار إلى وجنتيها حياء لكنها لم تفر منه ترمقه بذاك الضعف الذي يتلبسها بالقرب منه (تلك الليلة التي قضيتها جوار أمي، حاولت استدراج أفكاري السوداء ككل ليلة إلا أنها كانت تفر مني لصالح أخرى طغت بدفئها على خيالي، فنِمت وأنا أفكر بك، وبزواجنا، وحين استيقظت اكتشفت أن الكابوس البائس لم يزر منامي ليلتها، وكذلك الليالي التي تلتها.) أمالت رأسها ترمقه بتأثر وحب بدا نوره ساطعاً من محياها، فرفع كفه يربت على وجنتها مردفاً برقة (قد أكون اتخذت خطوة الزواج بك مرغما، وقد أكون غير متأكد من الفتاة التي اخترتها شريكة لحياتي في البداية، لكن الآن، أنا واثق من اختياري وأنا مثلك أريد لزواجنا الدوام والنجاح، أريد له حاضرا واضحا كأساس متين لمستقبل مبشر بالخير، ولذلك أحضرتك هنا لكي تعرفي عني ما لم أخبر به أحدا من قبل، ولكي تعرفي أي نوع من الآباء أنجبني.) أمسكت ظهر كفه على وجنتها تخاطبه بحنو (لا يهمني من أنجبك إسماعيل بل ما أنت عليه من دين وخلق وإنسانية، وما رأيته منك رجلاً ناضجاً، واعياً ومتحملاً للمسؤولية، حتى حين اخترتني من أجل عائلتك لم تظلمني بل تحملت مسؤوليتك كرجل، ورغم الضغوط والشكوك حاولت السير بخطى متأنية على أمل أن تجتمع بي على أرض ثابتة، وهذا ما يشعرني بالضعف جوارك..) قطب حاجبيه مصغيا ومتأملا تفاصيل وجهها ( أنا لم أكن يوما ضعيفة يا إسماعيل، جدي رباني على القوة وتحمل المسؤولية، فقد كان يخشى دنو أجله قبل أن يسلمني لرجل يستحقني ويصون الأمانة كما كان يقول لي دوماً، فعلمني كيف أعتمد على نفسي وأن لا أكون لقمة سائغة لأحد، علمني الخوف من الله الذي يحول بيننا وبين أنفسنا ويطّلع على كل خلجة في دواخلنا فأتقيه بيني وبين نفسي قبل علانيتي، تسلحت بخوفي من الله فلم أعد أخشى أحداً غيره لذا وثق بي جدي ولم يرفض حين أرسلني والدي لأكمل الدراسة في العاصمة.) ظهرت بسمة إعجاب على جانب ثغره قفزت مع كلماتها التالية إلى عقر مقلتيه فشعت بلمعة الحب الذي أزهر في قلبه (حين طلب مني أبي الزواج منك فكرت بعملية وسألته عنك، لن أنكر أمامك أنني ترددت للحظة لكن ما أخبرني به عنك جعلني أمضي في الأمر لسببين، أولهما أنك رجل لا يُرفض، ثانيهما أنني وأخيراً وجدت باباً يُفتح بيني وبين أبي، ومع ذلك أنا لم أشعر بنفسي استسلم إلا قربك، أحب تلك الطريقة التي تقف بها جواري، وتمسك بها يدي حاميا ومدافعا أنا أحب ذلك جداً وأريده!) ابتسم بمشاكسة تمكنت من قلبه الذي داعبته كلماتها الساحرة بصدقها (هل أعتبر هذا اعترافا بالحب دكتورة؟ ) تصنعت العبوس وهي تعقب بعتاب (إن كففتَ عن مناداتي بدكتورة قد تحصل على واحد مباشر وصريح فأنت زوجي، ألست كذلك دكتور؟) ضحك فأشرقت ملامحه كأن لم يكن به وجوم قبل قليل، وضم جانبي وجهها يتأملها بحب (بلى أنت محقة، أنا زوجك، وأنا أحبك يا طائعة.) اتسعت بسمتها بنفس بهجته، تربت على ظهر كفيه محمرة بشدة وهي تبادله اعترافاً بآخر يوازيه صدقاً وقوة (وأنا أيضا أحبك إسماعيل، فهل يكفي حبنا هذا لنجتاز الماضي بكل مآسيه؟ أحتاج منك تأكيدا على هذا وبشدة!) تفاجأت حين ضمها بقوة فتشبثت مستسلمة ومسلمة له حصونها، وحين أبعدها بعد برهة مشتاقا لتأمل عينيها وعدها بصدق ويقين (سيكون، بإذن الله سيكون أكثر من كافٍ حبيبتي.)
***
(اليوم الثاني)
(صباحا)
(المستشفى، القسم النفسي.)
أنهى جلسته التي لم يطل من مدتها مع مريامة، يمنحها الوقت كي تستوعب حياتها الجديدة، فتمسي أكثر تقبلا للعلاج، وأكثر ثقة بمن حولها ثم توجه إلى رواق ما وتلصص لبرهة قبل أن يعود بنفس التسلل إلى مكتب طائعة. دق على الباب المفتوح فرفعت رأسها عن الملف بين يديها تبتسم له برسمية، فخطا نحوها وهو يلمح تلك اللمعة التي تشع بها مقلتاها يفكر بأن شيئا ما تغير فيها، تلك ليست طائعة التي التقى بها في فصله؛ فتاة صغيرة صاحبة قوة وكبرياء، وعينان تحملان من الحزن الكثير. (كيف حال مريامة؟) بادرته بالسؤال وهي تجمع الملف وتضعه أمامها على سطح المكتب، فرد عليها وهو يحتل أحد الكرسيين قبالة مكتبه (أنا متفائل والحمد لله، أسعدتها الهدايا وتركتها تتفقد الكتب بحماس.) السرور ملأ نفسها بينما تخاطبه بحماس (الحمد لله، أنا سعيدة من أجلها، متى يمكنني رؤيتها؟) ضم شفتيه ومنحها نظرة ذات معنى بينما يراوغها (أنت بالتأكيد سعيدة لكن لا أظن أن مريامة السبب لحالها.) بلعت ريقها بتوتر، فاستطرد بحزن غلفه بالسخرية (لطالما ظننتُني محترفاً في عملي، وأقنعت نفسي بأنني أستحق لقب البروفيسور بنفس القدر الذي أمقته به، إلا أنني بالأمس أو لنقل قبل أمس اكتشفت أنك أكثر براعة مني دكتورة!) تجمدت تنظر إليه بترقب، وهو يسترسل بنفس المزاج الساخر بنوع من الوجوم (لم أستجب لطبيب قبلك حتى ممن يفوتونني خبرة وعلماً إلى أن التقيت بك، وبطريقة ما استجبت لك بينما أحاول فتح طريق علاج إليك، فأصبح البروفيسور مختار العَرَبي مريضا لدى طالبة لم تتخرج بعد، والله شاهد علي، لقد استغربت وحللت بطريقة تجعلني لا أعترف لك بأنك طبيبة نفسية بارعة.) أخذ نفسا عميقا وزفره بنفس العمق، ثم أكمل حديثه (لكنك برهنت على أنك فعلا طبيبة بارعة فقد عرفت كل معلومة صغيرة وكبيرة عني في الوقت الذي أخفيت فيه عني أهم معلومة كانت لتساعدني في فهم كل ما ألم بك.) بللت شفتيها ترد عليه بتردد (أنا.. بروفيسور..) (لماذا أخفيت عني أمر أختك طائعة؟) قاطعها بشكل مباشر، فبلعت ريقها ترمقه بارتباك (هل رأيتهما معا؟ هل تأكدت من أنه أب عادي محب وكريم مع سواك؟ هل تأكدت من أنك الوحيدة بين ابنتيه التي حرمت منه؟) لمعت مقلتاها بدموع محبوسة، متسمرة مكانها بصمت، وهو يكمل ببرود (كم مر عليك من السنوات وأنت تتلقين حبه ووده من خلال مراقبتك له يبثهما لأختك؟ بماذا شعرت حينها؟ بالألم؟ بالحسرة؟ بالغيرة؟ تحدثِي طائعة، ...أنا أنتظر!) قامت عن كرسييها بينما تجيبه بتوتر، وقد بدأ الأمر بالفعل يبهت في صدرها (من فضلك بروفيسور أنا لم أكن حينها مستعدة، أنا...) استقام واقفا بدوره وعدل من هندامه يخاطبها بجدية (أجل كما كنت في انتظار شخص مناسب، كنتِ بدورك تنتظرين الشخص المناسب، والسعادة الظاهرة على وجهك دلالة على أنك وجدت الشخص المناسب لأكثر من فضفضة ونقاش معالج، لقد سلمت حصونك لطبيب النفوس، أستطيع رؤية ذلك.) ابتسمت له باعتذار فرفع رأسه بأنفة مضحكة، وهو يستطرد قبل أن ينصرف (وأنا سعيد من أجلك، لكنني غاضب منك، لأنك جرحت كبرياء البروفيسور، وبعدما أكد له غروره البائس أنه نجح في تعليمك الثقة بالناس اكتشف أنك لم تفعلي ولم تثقي به، ولهذا أنا غاضب منك ولا أعلم كيف ستجعلينني أنسى ذلك! إلى اللقاء.)
***
(مساء)
(الباب الداخلي الخلفي

You are reading the story above: TeenFic.Net