#الفصل_الثالث_عشر_ج١
وبعد دقائق قد شعر أكرم بشيء في تأخيرها فنهض ليبحث عنها ، هو يعرف أنها الفتاة الذي رآها على الطريق بأول لقاء ، ثم رآها وهي تركض أمامه ليلًا داخل القصر ، وتتابعت خطتها في التنكر وهو يسايرها حتى يعرف الرد المقنع على جميع أسئلته ... وعندما ذهب ليبحث عنها لم يجد لها أثرًا ، فركض كالمجنون يبحث عنها ... وقلبه ينتفض ..!
تسارعت دقات قلبه بسرعة عالية وهو ينظر ويطاف بصره يمنة ويسرة بحثا كالذي فقد أغلى ما لديه بالحياة، حتى في خطواته الراكضة بحثا بالشوارع والأرصفة كان يتردد سؤال بداخله، وشيء بنفسه يحجب ويواري الإجابة .. وشيء بالقلب يعترف ويُعلن! وشيء آخر بالعقل يذكره بمرارة ماضيه وسخافة تكرار التجربة في وهم اسمه "الحب"
كالذي يتجاهل أسباب الغرق واليد التي افلتته حتى ينجو ويحتضن دفء رمال الشاطئ .. كان هو ..!
في تجاهله لدقات قلبه ، وخوفه من فراقها، واللهفة المجنونة لرؤيتها مرةً أخرى حتى وهي تتخفى بملابس صبيانية ود لو يخبرها ذات مرة أنها تعلن فتنتها أكثر مما تخفيها ..!
********
وماذا عنها ..؟!
كانت تركض بأقصى سرعتها ، حتى أنها من شدة خوفها أن يلمحها لم تستطع الانتظار ولو لدقيقة حتى تجد عربة او سيارة أجرة تقلها لمكانً آخر .
كانت تشعر بالمغامرة والتسلية كلما ابتعدت وتخيلت موقفه الآن، ولكن بعدما ابتعدت بالفعل بعدة شوارع ومسافة لن يستطيع العصور عليها فيها بسهولة توقفت ..!
وانقلبت حالة التسلية لبرودة وغيمة مفاجئة من الكآبة والوحدة ! .. وتعجبت أنها لعدة أيام فائتة قليلة لم تشعر بتلك المشاعر التي لازمتها لسنوات !.. وظنت ظن ساذج أنها تخطت وتجاوزت وهزمت ضعفها.
واصبحت قدميها فجأة ثقيلتان كأنها كانت تجرّ لمسافات طويلة غرائر من الرمل !.
ودون أن تفكر كثيرًا توجهت لتجلس تحت مظلة خرسانية لاستراحة المارة والعابرين .. وتنهدت بضيق غريب ومخيف ، الفرصة على طبق من ذهب الآن لأن تعود لحياتها ومنزلها ، ولكن إرادتها تحجرت وضربها الصقيع فجأة .. وشعرت بشعور مميت بالوحدة والتعاسة .. ورافقه شعور مخيف بالفقد والأشتياق !!
ابتلعت جيهان ريقها بمرارة وبدأت تدرك ما بها ، بدأت تعرف ما هو الحب ، الذي لا يستأذن ولا ينتظر منا إذن الدخول ! ، وطفرت عينيها الدموع وصاحبها ابتسامة ! ... ولكنها ابتسامة تحمل الكثير من المرارة ، ولتعاسة حظها في الحب حتى حينما وجدته !
وفجأة انتبهت لهمس سيدة عجوز وهي تحدثها معتقدة أنها فتى :
_ بتعيط ليه يابني ؟! ..
ابتلعت جيهان ريقها بصعوبة وأجابت ولم تكترث أن كان سيخرج صوتها ناعما كطبيعتها أم يغلفه قسوة ما تمر به :
_ لا ابدًا ... بس بصراحة عايز أرجع بيتي وفلوسي اتسرقت !..
ربتت السيدة على كتفها برقة وقالت :
_ ولا يهمك .. أبني سواق وأنا مستنياه يرجعني لشقتي ، هخليه ياخدك يوصلك لحد بيتك ولا تزعل نفسك ..
نظرت جيهان لتلك السيدة بأمتنان وتاهت شاردة بأفكارها التعسة مرةّ أخرى، وهي تعرف حالما تعود لمنزلها وحياتها المرفهة التعسة لن تستطيع النظر والعودة لذلك القصر البعيد المهجور ، والرجل الوحيد الذي احتل قلبها بتلك الوحشية والسرعة ! .. ولهؤلاء الأطفال المساكين الذين حتما ينتظرونها بلهفة ! ... أي ما كان شعورها فهي بالنسبة له لا شيء ! ... ليس أكثر من فتى !.. أو ربما يعرف حقيقتها ويراها كلصة ينتظر دليل إدانتها! .. ليس أكثر! .
أيام من عمرها لن تنساها مهما حاولت .. والعودة للخلف درب من الجنون والحماقة ..!
اغمضت جيهان عينيها الدامعتان حتى انتبهت للسيدة وهي تهتف وتشير لعربة أبنها التي توقفت للتو ... ونهضت معها ودخلا السيارة والعجوز توضح لأبنها أمر الفتى الضال المفقودة نقوده.. ! ... حتى قال السائق لها :
_ عنوانك فين ؟
انتبهت جيهان للسؤال وقالت بتيهة :
تفاجأ السائق ووالدته ، حتى قال برفق :
_ محلولة بإذن الله، هوصلك لمحطة القطر وهناك هتدبر ..
وعاد الرجل يحدث والدته ويمازحها قبل أن يحرك سيارته نظرا لإزدحام الطريق وبطء المرور والسير، ونظرت جيهان للنافذة بجانبها شاردة للبعيد، حتى انتفضت وانتبهت جميع حواسها للذي ينهب الطريق بخطواته الراكضة الواسعة ويبحث بجنون عن شيء ! ... حتى أنها رأته يسأل ويحدث بعض الأشخاص ثم يعود بنظرة يائسة غاضبة وينظر للطريق !.
تجمدت بمكانها وهي محدقة فيه بعينيها الواسعتان ، حتى وقع نظره عليها فأضيقت عينيه بشرر عنيف ومخيف وهو يركض نحوها .. ولكن تحركت السيارة الجالسة فيها واستعدت تدريجيا للسير والابتعاد ... وتشابكت أعينهما في نظرة طويلة وهو يركض نحوها ... حتى توقف وهو يرى السيارة تبتعد أمامه وبدت نظرته لها فاضحة اللهفة والحزن ..
وبالكاد ابعدت جيهان عينيها وهي تشعر بغصة مريرة عالقة بحلقها ، وبعد مرور خمس دقائق تقريبًا هتفت فجأة وقالت بإصرار :
_ نزلني !
تفاجأ السائق ووالدته ، وكررت بتصميم وهتاف:
_ نزلني هنا لو سمحت ..
أوقف السائق عربته وانصاع للأمر دون فهم ، فقال :
_ في ايه ؟!
خرجت جيهان من السيارة وهي تركض دون توضيح ، دون كلمة، دون اكتراث لأي شيء سوى شيء واحد ..!
لن تكون هذه النهاية !
ركضت بالطريق حتى عادت وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة من الركض ، وعادت لنفس النقطة التي افترقا عندها منذ ما يقارب النصف ساعة تقريبًا، ورأت سيارته مصطفة خلف صف من السيارات فركضت نحوها، وبحثت عنه بداخلها، ولكن ليس له أثرا لا بداخلها أو حتى حولها!
فكيف لا زال يبحث عنها وهو رآها بعينيه تبتعد وهي جالسة داخل حافلة لنقل الأفراد...؟!
نظرت للسيارة ولا زال قلبها يخفق بقوة والابتسامة تشق قلبها قبل ثغرها مما جرى بينهما عندما التقت أعينهما ، بينما كانت تبتعد أمام ناظريه .. بينهما شيء وهذا أصبح يقينا بداخلها لا ظن فيه ولا وهم.
وقررت أن تنتظره بداخل سيارته، فحتما سيعود إليها
ودخلت "چيهان" السيارة واختبأت بالمعقد الخلفي حتى يأت .. وانتظرت كثيرًا حتى جاء بعد وقتا طويل وشعرت به وهو يدخل سيارته بطريقة غاضبة اهتزت لها السيارة ، ونظر أكرم أمامه وهو يبتلع ريقه بمرارة والم غامض ينهش أعماقه .. وقال محدثا نفسه بتصريح :
_ مش متخيل أني مش هشوفك تاني ..؟!
خفق قلب جيهان بسرعة عالية وابتسمت بسعادة لأول مرة تشعر بها طوال أيام عمرها الماضية، ثم تسحبت ورفعت رأسها حتى رأته من مقعدها، وقالت بمكر وهي تريد لو تقفز كالطفلة مرحا بسعادة :
_ يا زعامة ....أنا هنا..!
قالت ذلك واختبأت مرة أخرى وهي تكتم ضحكتها، اتسعت عينيه من الصدمة، ثم أضيّقت فجأة واسودت من الغضب وهو يفتح باب السيارة المجاور له ليخرج ويفتح باب المقعد الخلفي المختبأة به.. وهي رغم مظهره المخيف ولكنها تشعر بمنتهى الأمان .. وأن قصتها الخاصة تبدأ هنا ، ومن هنا، وبتلك اللحظة خصيصاً ..
جذبها من ذراعها وأخرجها بقوة لتقف أمامه وهي ترتجف ، ونظر لعمق عينيها بعنف وهو يكتم سيل من الشتائم ، فنظرت له وتحكمت بابتسامتها التي ظهرت قليلا وقالت :
_ ما هربتش ورجعت ..
أطبق أكرم شفتيه بغضب ، ثم قال وكأنه يهددها:
ابتسمت جيهان لنفسها سرا بسعادة عندما حدثها بصيغة المؤنث واعلن عن كشفه حقيقتها ، فرفعت يدها وأزالت تلك القبعة المضحكة ، وانحدر شعرها الأسود ذو الاطراف المصبوغة حول وجهها وتوسد كتفيها بنعومة وفتنة ، ونظرت له بتردد وحياء ، فتفاجئت بنظرته الغارقة فيها ، وسيماء وجهة التي تبدلت من الغضب للسكون ، ونظراته الضائعة بعينيها وخصلاتها الشاردة .. فتوردت وجنتيها وقالت بمكر :
_ لو هتطردني أو تزعقلي يبقى أمشي من دلوقتي .. مع السلامة.
كادت أن تبتعد حتى وجدته يدخلها السيارة بالقوة وظهر عليه الغضب من جديد من تصرفها، وأجلسها بالمقعد الأمامي بجانبه ، ثم نظر لها وقال بعصبية :
_ مش بمزاجك...
وابتعدت بعد أن رماها بنظرة تهديد لتبق مكانها ، فأخفت ابتسامتها رغما حتى وجدته يجلس بجانبها ويحرك السيارة في طريق العودة للقصر ، فقالت وهي تكتم ضحكتها :
_ هو أحنا مش هنروح للدكتور ؟!
رماها بنظرة ساخرة ، فلم تستطع كتم ضحكتها أكثر من ذلك، والتزم أكرم الصمت بعد ذلك، وبدا وجهه بلا تعابير أو علامات لأي شعور يجول بداخله ، بدأ غامضا مخيفا وشاردا ... وتعجبت أنه لم يطرح عليها أية أسئلة..!
حتى مضى الوقت في الصمت والتفكير ، ووقفت السيارة أمام القصر أخيرًا .. وتنفست جيهان بسعادة حقيقية عندما رأت القصر من جديد ، وكانت على بُعد خطوات لتهجره ربما للأبد ..
وعلى عكس المتوقع تركها أكرم ودخل بخطوات واسعة رشيقة للقصر ، كأنه يريد الأنفراد بنفسه، وصدم الصغار عندما شاهدوها بذلك المظهر بينما كانت برفقته منذ قليل !!
فقال شامي بدهشة :
_ أنتي كنتي كده وأنتي معاه ؟!!
تنفست جيهان بارتياح وقالت وهي تجلس على مقعد بردهة القصر :
_ آه ، وعلى فكرة هو عرف الحقيقة ..
شحب وجه الصغار من الخوف فقال أحدهم بتوجس:
_ يعني عرف أننا كدبنا عليه ؟!
كادت جيهان أن تجيب حتى أتى شاندو مسرعا وقال بخوف :
_ دخل أوضته ومش عايز حد يدخله دلوقتي ؟! ... ربنا يستر وما ننطردش كلنا النهاردة !!
لم تقلق جيهان كثيرا من الأمر ، ولكن بعد مرور الوقت وبدأت ساعات الليل قريبة أرتقى خوفها واصبحت تشعر بشيء مخيف بردة فعله هذه ! ... فمنذ ساعات وهو بغرفته منعزلا عن الجميع ولا يريد رؤية مخلوق !!
وقفت بغرفة الفتيات تمشط شعرها أمام مرآة قديمة بعدما ارتدت رداء مناسب لها وكان بحوزة أحدى الفتيات .. اقتربت وصيفة منها وقالت بإعجاب :
_ شكلك جميل اوي أوي يا ماما جيهان ..
تدخلت رضا بجفاء كعادتها وقالت بغيظ :
_ احنا في إيه ولا في إيه يا ست وصيفة ؟! .. خلينا في المصيبة السودا اللي وقعنا فيها كلنا وبسببها ممكن نرجع للشارع تاني ! ..
استدارت جيهان وانتبهت لما قالته وصيفة بدهشة، ولكن قطع سيل أفكارها صوت طرق على باب الحجرة ، وأحد الصغار يدخل لاهثا ويقول لجيهان :
دق قلب جيهان بقوة ، واختبرت مظهرها بلمحة سريعة قبل أن تهبط درجات السلم بأقدام متراخية ترتجف .. أفقدتها تلك الساعات الماضية شجاعتها أمامه ... وحينما نزلت الطابق الأرضي وجدت جميع الصغار يقفون ومجتمعين وعلى وجوههم الخوف والترقب ... قالت لهم وهي تطمئنهم وربما كانت اكثر منهم رهبة :
_ ما تقلقوش كله هيبقى تمام ... اطمنوا ..
وأخذت نفسا عميقا لرئتيها قبل أن تطرق على باب المكتبة ، وأتى صوته مخيفا وهو يسمح لها بالدخول ، وحينما دخلت جيهان وهي تبتلع ريقها سعلت من إمتلاء الغرفة بدخان ورائحة السجائر ... حتى أن رؤيته اصبحت ضبابية وهو يجلس مستندا بارياحية على مقعد خلف مكتب قديم لأول مرة تراه وتدخل هذه الغرفة من الأساس !..
حينما استعادت هدوء أنفاسها بصعوبة رأته وهو ينظر لها بصمت ونظرة ضيقة ، وتعجبت من غضبه الواضح ! ... فنظر لعينيها مباشرةً وسأل بصوت حاد :
_ أيه اللي جابك هنا ؟!
سؤاله كان متوقعا ، فبدأت بالشرح وقالت :
_ في ناس سرقوا عربيتي وواحد خطفني منهم وهربت منه و...
قاطعها بعصبية وقال :
_ عرفت القصة دي من شاندو ، أنا بسأل عن سبب وصولك للمكان ده من البداية !.. مش بعد الخطف!
تفاجئت جيهان بحدته وجفائه وكأنه اصبح مخلوقا آخر فجأة !! فقالت بحيرة :
_ كنت جاية اقضي فترة الاجازة في مكان قريب من هنا ، بس توهت ومعرفتش أوصله ،وللأسف العنوان ضاع مع عربيتي وكل شنطي وحاجتي ...!
انتبه أكرم لما ترتديه وابعد عينيه بعصبية ، ثم نظر اليها بنظرة عميقة وقال :
_ عشان تفضلي هنا في شرط واحد ..
خمنت جيهان أي شرط يريده ، فابتسمت سرا لظنها وقالت بثبات ظاهري :
_ شرط ايه ؟
نفث أكرم دخان سيجارته وابتسم لها بسخرية وقال :
_ ترجعي زي ما كنتي ، أنا مش بستقبل أي ست في بيتي .. ومش هتفضلي هنا وأنتي كده.
وأشار لما ترتديه بغلظة، ورغم نظرة الدفء والأعجاب الشديد بعينيه كلما التقت نظراتهما، ولكنه قال بلا اكتراث :
_ القرار قرارك ..
شهقت جيهان من الصدمة ، هذا كان آخر شيء ممكن أن تتوقعه !! ... الهذا ولهذا عادت ؟! ..
وما جمدها أكثر هي تلك النظرة الساخرة منها ، والذي يبدو وكأنه قرأ افكارها وسخر منها ...! .. هل كانت حمقاء حينما عادت ؟!
أم أن في عودتها الصواب لتكتشف أنها أحبت رجل قلبه من. رصاص !! .. لا يقتحم القلوب إلا للموت ..!
#سيد_القصر_الجنوبي
#رحاب_إبراهيم_حسن
You are reading the story above: TeenFic.Net