الفصل الرابع

Background color
Font
Font size
Line height


الفصل الرابع

التربية الأولى الجنسية تبدأ بأدب الاستئذان... أحمد راتب النابلسي.

(منتصف الليل)

(مدينة الجبال)

(أمام المستشفى العام لمدينة الجبال.)

هل تعلم تلك الفتاة كيف يشعر، وهو واقف كالطود متخصراً بكلتا يديه على جانبيه فوق حزام سرواله الجينز الأزرق الباهت؟! هل تعلم كم من رغبة متناقضة تقتات على أعصابه الملتهبة بضراوة، وهو يرنو قعودها البائس على قارعة الطريق، منحنية الجذع، منكسة الرأس، تبكي بحرقة؟! رغبة في الإشفاق...رغبة في المنح...رغبة في الأخذ...رغبة في التفهم...رغبة في الغضب... رغبة في العقاب... أي كان! فقط العقاب لمن كان السبب في وضعه برمته، لو فقط يعرف هوية عدوه الحقيقي! رغبة في الحب... أجل الحب! لكن ليس حبا شهوانيا بقدر ما هو حبا عاطفيا، يمنح الحنان حد الشبع، يمنح الأمان حد القناعة... حبا نقيا، وفيا، وطاهرا. ذاك الذي يصاحب حلما يبدو له أسطورياً بحياة سوية، لا يشوبها سوى اللمم، فكيف السبيل إلى ذلك، وهو يتخبط في حيرة لم يجد لها مرسى ولا بر؟! كيف يصدق حلما داعب جنبات خياله وسط زنزانة مظلمة كانت من اختياره، عقابا لنفسه على جرائم لم يكن ليقترفها لولا جور والده؟! كيف السبيل إلى ما تمثله تلك التي تبكي بؤسا آخر على قارعة الطريق؟! ولماذا هي بالذات؟! هل قررت إشراق أخيرا لعب دور الأم، واختارت له شريكة حياة؟! إن كان حقا كذلك فلماذا؟! وبأي حق تدّعي أنها أدرى بما يحتاجه قلبه المغبون بها وشريكها في الجرم؟! هل حقا أصبحت أما؟! متى ولماذا؟! هل حقا سيحب فتاة ويرغب بالزواج منها؟! هو والحب؟! ابن الخطيئة وحياة سوية؟! ابن الخطيئة والحب؟!

نفث من فمه زفرة طويلة عبرت مسلكها فرارا من جحيم تغلي به أحشاؤه، ثم اقترب منها يقول لها بنبرة لم يدر كيف يصبغها برقة لم ينشأ عليها فخرجت فاترة (كفاك بكاء) ضم شفتيه وهو يراقب اهتزاز كتفيها، فزفر نفسا آخر يستدرك بحنق في تصاعد (إنه منتصف الليل بالله عليك، وعلى قارعة الطريق، سيقبضون علينا ويتهموننا بالفساد.) رفعت رأسها إليه، فهاله احمرار مقلتيها وانتفاخهما وخديها الأسمرين المبلولين، لذا أضاف بسخط يتهرب به من ملاحظة عقله الغريبة (حتى لو قدمنا لهم هوياتنا لن تبرر رفقتنا معا في هذه الساعة من الليل، وهنا.) قطبت جبينها تشهق بخفة، وشفتها السفلى في ارتعاش مستمر حتى وهي تسأل بنبرة متهدجة (وماذا سيحدث إن لم نقدم لهم الهوية؟) أصابته الحيرة من قولها، فاستفسر منها (ألا تحملين معك هويتك؟) حدقت به لبرهة قبل أن تستأنف نحيبها مجددًا، تجيب من بين شهقات بكائها (ألا تفهم ما يقال لك؟! أم أنت تتعمد إيذائي؟!) بسط ذراعيه متسائلاً بدهشة (ماذا فعلت مجددًا؟!) قلبت شفتها السفلى فبدت كطفلة صغيرة تائهة عن أهلها بالفعل، تجيبه ببكاء مؤلم (ما الذي لم تفهمه في أنني ضائعة؟! وتائهة عن أهلي؟! كبرت في البئر ولم يكفلني أحد، وبالتالي لم يهتم أحد بدراستي أو استخراج أوراقي الثبوتية.) رفع حاجبيه بقوة، يهتف بعدم تصديق (وتلك المرأة، آمنة، والدرويش؟!) مسحت خديها ترد عليه مفسرة بغضب (الخالة امرأة لا تفقه أمرا، أمية مثلي والدرويش!.... درويش يرعاني من بعيد.) نسي نفسه في خضم تفكيره العميق، وجلس جوارها مستسلما يمسد جانب فكه فراقبته بتأني يخالف قلبها الذي يعدو في سباق مرهق لها، تستشعر الدفء من جانبه بطوله الملاحظ، والذي تكفل بصد رياح الخريف الباردة عنها. التفت إليها فجأة يهتف بفضول، فشهقت بخفة تفر من حصار ظلمتيه (واسم سترة، من أين حصلت عليه؟!) زمت شفتيها ثم ردت عليه بوجوم (أذكر القليل من طفولتي، فلم أنس اسمي، وكنت أرفض حين كانت الخالة تناديني باسم مغاير حتى استسلمت، وبدأت بمناداتي باسمي.) ما زال ابهامه في رحلة دعك حول فكه بينما يسألها بتركيز (وماذا تذكرين أيضا؟!) انهالت عليها الصور، والمشاهد، القليل كما أخبرته قبلا؛ حضن دافئ لامرأة تظن أنها والدتها! ربته حانية على رأسها من رجل تظن أنه والدها! وجهيهما يكاد الطشاش يطمس ملامحهما، ففقدت صورهما الواضحة، كما هو الحال مع باقي إخوتها باستثناء واحد فقط لم تنس وجهه أبدا، ملامحه حُفرت حفرا دامغا في عقلها الذي لم يتجاوز حينها الست سنوات. غامت عيناها بالكابوس الذي يزورها بين الفينة والأخرى، كأنه يحرص على عدم نسيانها، ويحذرها من فقدان ذكرى وحيدة كانت فارقة، لكن لمن؟! لا تعلم، قد يكون من أجل صاحب الجسد المسجى على الأرض، فرد آخر تشعر أنه من أشقائها، فرد آخر طمست ملامحه مع مرور الزمن في خيالها، فلم يبق منهم سوى بقايا في طي النسيان. نسيانٌ لم يستطع أن يسلبها ذكرى المشهد المؤلم، وما أقساه من ألم يكبر مع نضج إدراكها حين اكتشفت أن ما شهدته في صغرها، وأخافها يزداد بشاعة مع توالي السنين ونضج عقلها الذي فهم أخيرا أنه كان... اغتصاباً. (أنا أحدثك!) أجفلت على إشاراته أمام وجهها، يستطرد بريبة (بماذا شردتِ؟) تلفتت حولهما ثم انتفضت واقفة، تنفض ثيابها وتقول له بارتباك (هل نسيت الشرطة؟! يجب أن نعود حالا، لقد تأخر الوقت كثيرا.) صمت يراقبها بتمعن من مكانه على الأرض، فأضافت بقلق وتوجس (أنا خائفة، قد يعتدي علينا أحد في هذا الوقت من الليل.) انتفض ليهل عليها بطوله الفارع، يستنكر بامتعاض (كيف ترينني؟! طفلا صغيرا جوارك؟!) ثم أصدر صوتا ساخرا من حلقه، فلاح شبح بسمة على جانب ثغرها الرقيق، وهي تعلق (بهذه الملامح؟ أجل.) بشكل ما سرت نسمة دافئة، وتخللت خلايا صدره لتدغدغ كيانه بسرور خفي، أحسن اخفاءه بينما يجيبها بنفس التهكم (طريفة! تقدمي أمامي لكي لا يتعدى عليك أحد.) أطاعته لتطلق العنان لبسمتها لتملأ وجهها المحمر تعباً وبؤساً، ونفس النسمة تجتاح أحشاءها بالدفء هي الأخرى؛ يكفيها ما يغمرها من شعور، ولأول مرة في حياتها بعدما سمعت عنه كثيرا، ولم تستشعره سوى اللحظة والتو ... الأمان؟! أما هو فلم يسمح لنفسه بالبهجة، وإن لفّته فورة الفخر باستعراض عضلاته، فالتي أمامه تخفي عنه أمورا أخرى، قد يكون أحد مفاتيحه الضائعة، ولن يكون يونس آل عيسى إن لم يجمعها جميعها.

***

(في نفس الوقت)

(المدينة السياحية)

(غرفة نوم أسامة.)

مرت ساعتين على سكونه وسط سريره متربعا في جلوسه، يرمق الهاتف الموضوع أمامه بذهول، كأنه اختراع غريب. لا يصدق فعلته، هل فعلا هو من حدّث الطبيب؟! هل هو فعلا من نطق وأخرج كلمات كانت تئن ألما في سجن أحشائه؟! رمش بجفنيه مقطبا، ثم زفر بوجوم. لقد شعر براحة غريبة بعد أن تسللت الكلمات عبر حلقه. لا ينكر بأنها تركت خدوشا مؤلمة في جوفه وهي تتلمس طريقها فرارا نحو البراح لكن وبعد أن أراحته من ثقلها شعر ببعض من الخفة بالفعل، بعضا من الدفء، وبعضا من ال .... لا يعلم كنه ما يشعر به إلا أنه حقا شعور مختلف. فهل يكفي ذلك ليشعر ببعض من التفاؤل بما هو مقدم عليه؟! تناول هاتفه أخيراً ووضعه على المنضدة ثم استلقى مستسلماً لفوضى أفكاره مجددًا، بين سرور أهله لزواجه، وبين ملامح العروس التي تبدو كالمنقادة لتطبيق حكم بالإعدام، وفي ميدان عام. ارتفع جانب فمه بسخرية مريرة، يفكر بأن زواجه ونوران فصل آخر من مسرحية ساخرة، الجميع يمثل فيها دوره بإتقان حتى أفراد عائلته المدّعين للفرح، وهو يغمره من اليقين ما يجعله متأكدا مما يجول في خواطرهم من شكوك وتوجس لكن .....تنفس بعمق يهمس بجفاء (لنرى إلى أي مدى ستدعون الغباء؟!) وفي مدينة أخرى تبعد بمئتي وما يزيد من الكلومترات، يتأمل البروفيسور سقف غرفته، ممسدا خصلات زوجته النائمة بحركات خفيفة رتيبة تدل على سهو صاحبها. ذكاؤه الحاد امتزج بفضوله القاتل فحرما مقلتيه من النوم، يحلل ويضع تكهنات وافتراضات، قطعها ذكرى صغيرته فنبه نفسه إلى أن النوم واجب كي يستطيع مجاراة نشاط فلذة كبده، وليترك أمر الغريب لحين دنو أوانه.

***

(بئر السواد)

توقفت تلقائيا أمام غرفتها واستدارت إليه بينما يبتعد نحو غرفته، فبادرت بعد تردد تشكره (شكرا لك.) لوهلة ظنت أنه لم يسمع نبرتها المرتعدة لكنه استدار إليها يرد عليها بعبوس متهكم (احذري قطط إشراق.) شعرت بكلماته تتجاوز معناها الحرفي حين فُتح الباب خلفها، وخرجت منه المعنية مع قطها البني المسترخي بين كفيها، والسوداء في أثرها لا تفارقها. نظرت إليها سترة فهتفت بسخط قبل أن تبتعد نحو ابنها (إن لم أجدهما نائمتين حين عودتي، سأسلط عليهما قططي!) زمت سترة شفتيها تشيعهما بنظراتها المتوجسة، وإشراق تسبقه إلى غرفته بصمت مريب من كليهما. دخلت الغرفة حيث زفرت بضجر وهي تراقب شجار الاثنتين النزق (لا يهمني! لولا جنون أخي ما جمعني مكان واحد بأمثالك!) هتفت سهر بتأهب، فردت عليها الأخرى باندفاع غاضب (ومن تظنين نفسك يا حضرة ملاك الطّهر؟!) مطت سهر شفتيها تعقب بغل (مهما أكون، لست من أبيع لحمي لمن هب ودب!) توحشت ملامح رباب، تصيح بحقد (وإن قدمتِيه على طبق من ماس لن يقبل به أحد! فلا أحد يرمي بنظرة نحوك ولو على سبيل الشفقة!) همت سهر بالرد عليها مجددًا حين قاطعتهما سترة بهتاف ناقم، تزامنا مع حركاتها العصبية وهي تحضر أغطية خفيفة (أصمتي أنت وهي! يا الهي ارحمني! اسمعاني جيدا!) ألقت بغطاء على كل واحدة منهما على حدة، تكمل بحزم (أنا مستنزفة ولا أستطيع التحدث الآن، فقط ناما وسنتحدث في الغد ...بإذن الله.) كانت قد استلقت جوارهما على السجادة القديمة التي تغطي أغلب البلاط القديم للغرفة، وغطت جسدها بالغطاء الخفيف حتى الرأس، فتبادلتا نظرات ساخطة قبل أن تزفرا بضجر وضيق وهما تستلقيان، كل واحدة جوار سترة من جانب مختلف. حل الصمت للحظات لا يُسمع سوى هسيس أنفاسهن، فتساءلت رباب بحيرة، وهي تتأمل ظهرها المكسو بقماش الغطاء المهترئ (هل هو حقا ابن إشراق من ابن آل عيسى؟!) لم تجبها، فنطقت سهر بتذمر (حاولي أن توقعيه في شباكك، ففي النهاية والدته مثلك.) عبست رباب إلا أنها تجاوزت إهانة سهر قائلة (لم أعرفها من قبل.) ضحكت سهر بخفة، تعقب بتهكم (إنها من أجيال الزمن الجميل.) ما تزال الحيرة تتعلق بملامح رباب، حين تحدثت بشرود (لقد سمعت عن غانية من أصل رفيع أنجبت من مجرم من أصل رفيع كذلك، لكنني لا أعرف التفاصيل.) (ها؟!) استفسرت سهر بفضول وهي تسند نصفها العلوى بمرفقها فردت عليها رباب بعبوس ساخط (لا شأن لك يا ملاك الطُّهر!) صاحت سهر بنفس السخط (إنه ذنبي لأنني أحدث أمثالك!) فاجأتهما سترة حين رفعت الغطاء عن وجهها، تهتف بنفاد صبر (الخالة إشراق أقسمت إن لم تجدكما تغطان في نوم عميق ستسلط قططها عليكما!) تكومتا على نفسيهما تنظران نحو مكانها في الجانب الآخر حيث تلهوا باقي قططها، فقامت سهر بخوف لتنتقل إلى جوار رباب كي تبقى سترة على الجانب المباشر للمكان كجدار حماية لهما، فقالت الأخيرة بتهكم (ألا تخشين من العدوى؟!) جعدت سهر أنفها بامتعاض، وهي تندس تحت غطائها، فعادت سترة هي الأخرى تغطي رأسها، وعقلها في حرب فكرية شعواء.

***

(في الغرفة الأخرى)

تمسد فروة قطها الناعمة، وهي تتأمل الغرفة حولها باسمة بغموض قبالة ابنها المتكتف ينتظر نهاية لصمتها الغامض. استدارت إليه تخاطبه بتمهل (أعطاك غرفته، غريب!) قطب جبينه بحيرة، يجيبها بجفاء (لم يعطني أحد أي شيء، أنا اقتحمتها واحتللتها، لم يكن لديه خيار.) اتسعت بسمتها الغامضة، تعقب بنبرة أكثر غموضا (لم تترك له خيار! الدرويش!... الله أعلم.) أسقط ذراعيه إلى جانبيه، وسألها (هل تعرفين أين أجده؟!) تقدمت منه خطوة تجيبه بمزيد من الألغاز (لن تجده وأنت تبحث عنه لكنه سيظهر لك حين تتوقف عن البحث عنه.) نفخ بضجر وتقدم منها خطوة بدوره يسألها بحنق، فلم يعد يفرق بينهما سوى القليل محاصراً نظراتها بنظراته الداكنة (ماذا تفعلين يا إشراق؟! من هو الدرويش، وسترة، وآمنة؟!) تلونت نظراتها بالجدية كما تشبعت نبرتها بالحزم (وما شأنك أنت بسترة أو الدرويش؟!) ارتد رأسه قليلا، وكأنها جفلته لكنه خاطبها بنبرة متصلبة تشع نقمة وكبتا لما يعذبه (حين تدفعين بها إلى طريقي، يجب أن أسأل أم أنك تريدينها مثلك فلم تجدي أفضل مني كي أدفع بها إلى طريقك؟) مال بنظره إلى صدرها الذي أصبح ينخفض ويعلو بقوة بينما القط بدأ بالمواء من شدة ضغطها عليه، فاستدرك ساخرا (احذري قطتك ستخدشك، ولا طاقة لي بالعودة إلى المشفى، كما لا طاقة لك بالحقن يا إشراق.) نظرت إلى قطتها، فرقت مقلتاها عن حدتهما ثم رفعتها تمسد فروتها بجانب وجهها برقة، فاشتعلت النار السوداء داخل عينيه حتى لمعتا بحرمان يأبى الاعتراف به. (أمرتك بالذهاب إلى بيت أهلك ورفضت، ماذا تفعل أنت هنا؟!) تعلقت نظراته بحركاتها الحنونة مع القط، وهو يجيبها بوجوم (لا يكفي اسمه الذي ألصقته بي كي أستحق العيش بينهم.) رفعت رأسها إليه لتمنحه نظرة خائبة بل متفهمة... وربما حزينة، وكأنها تضحية بُذل لأجلها الغالي والنفيس. (لقد أنقذت ابنها من الموت، ألا يكفي؟) تساءل بريبة (من هي؟ هل تقصدين أم إبراهيم؟) استدارت عنه، قائلة بجفاء تملّكها (بما أنك لا تريد الذهاب إليهم إلا بعد أن تتساوى الرؤوس، فافعل ما تشاء ولا تسأل، وحين تحقق مرادك...) توقفت عند الباب حيث ينتظرها قطها الأسود متأهباً طوال الوقت ثم التفتت إليه تضيف قبل أن تبتعد (أتمنى أن لا تندم.) رحلت متلافية تمثالاً متحجراً مكانه على تعبير الحيرة والضياع للحظات طالت حتى تحرك عن جموده، ودس يده في جيب سرواله، ليسحب هاتفا يطلب رقما ما.

***

(اليوم التالي)

(المستشفى، القسم النفسي)

رفعت طائعة قلمها تلمس برأسه حافة الورقة، وهي تتأمل ردات فعل بلسم ثم دونت الملاحظات "التحطيم الذاتي ما يزال مستمرا" جلستها متشنجة مثل قسمات وجهها الشاحبة، ومقلتاها محمرتان تمتلئان بالفراغ أما جسدها ففقد نصف وزنه خلال أسبوع واحد، وبدت كمن يعتصر قلبها لتسطيع تحريك لسانها (صدقيني أنا أحاول، لكن الألم يظل يجتاحني..) ثم ضغطت على صدرها، تكمل بوجع (يطبق على صدري وأشعر بالدنيا تضيق علي فتختلط كوابيس منامي بيقظتي، أسمع همسه كالفحيح، وعطره عالق بأنفي يثير غثياني، ثقل جسده عليّ كأطنان من الحديد، وحين أبحث عن مخرج ...) تدحرجت دموعها تباعا، تستطرد وهي تنظر إلى طائعة (يظل عقلي يدور في حلقة مفرغة من التساؤلات أدرك يائسة أن لا رد لها فتعود لتطرح نفسها مرة بعد مرة...) صمتت تعتصر مقلتيها وهي تشهق باكية، وطائعة صامتة تصغي إليها بتركيز (ماذا لو لم أطع أمي تلك الليلة؟ ماذا لو أقنعتها بأي طريقة مهما بدت مستحيلة؟! ماذا لو لم أطعها فقط لأسايرها كما أفعل دائما؟! ماذا لو لم أطلعها على ذاك الشي الذي وجدته بين ملابسي؟! والذي بسببه أمي غضبت بشدة واتهمت زوجة عمي بدسه لي؟! ومنذ ذاك اليوم بدأت جولات العذاب من دجال إلى آخر، وماذا لو لم يصر عمي على خطبتي لابنه من الأساس؟! ماذا لو؟ ماذا لو؟ آآآه! لماذا أنا ؟! لماذا؟!) غطت وجهها بكفيها تكمل نحيبها، فتنهدت طائعة بحزن وخفوت، ووضعت المسجلة مع المذكرة على الطاولة أمامها ثم قامت لتجلس على الكرسي جوارها، وربتت على كتفها بحنان (بلسم اهدئي عزيزتي، عيناك متورمتان سيؤلمانك بشدة، البكاء سيخفف عنك لكنه ليس الحل.) أزالت كفيها عن عينيها ترجوها بيأس (أين هو الحل إذن؟! كيف أتخلص من الألم، أرجوك علميني؟!) أمسكت يدها مشفقة، تفسر لها بروية ولطف (الوقت يا بلسم، كل ألم يحتاج أولا للوقت كالجراح العضوية كي تلتئم، والألم النفسي يحتاج للوقت لكي نستوعبه ثم نبدأ بتجاوزه ثم التحلي بالأمل، والتصديق بأن ما حدث معك ليس نهاية الكون، هناك حوادث تهز الأرض تحت أقدامنا، فتهتز كل قناعاتنا وكل ما بني عليه كياننا، هل تظنين فقط الاغتصاب ما يفعل ذلك بالإنسان؟!) فغرت شفتيها المحمرتين من قوة ضغطها عليهما يكاد ينفجر منهما الدم، لتشهق بأنفاسها، وطائعة تكمل حديثها (هناك من يتعرض لحادثة سير تسبب له عاهة مستديمة أو شلل أو بتر طرف من الجسم، وهناك من يشهد على حادثة أكبر من قوة استيعابه كقتل قريب له أمام عينيه، أو كوارث طبيعية كالزلازل مثلا ونجا منه بأعجوبة، وهناك من شاهد حربا وهي غريبة عليه لم ينشأ على تحمل أهوالها... تلك الصدمة القوية تسكن النفس لمدة تهز داخلها كل مبدأ وقناعة تربت عليها، وإن لم يكن صاحبها مقربا من خالقه يستمد منه القوة الكافية ليقاوم يضيع بضياع عقله، فيعيش غير متوازن أو يضع حدا لحياته نهائيا.) ما تزال ساكنة تستجدي منها المزيد، فربتت على يدها بحنو تكمل بلطف (كل يوم آتي إليك لأخبرك نفس الحديث بكلمات مختلفة حتى إن بدوت غير مقتنعة، فإن باطنك يسمع ويتشرب الكلمات مرة بعد مرة حتى يقتنع بوجود الأمل، فيبدأ في تصديقه، أي مصيبة يا بلسم هي دافعة لما هو أكبر منها ولله الحمد، وتعتبر بلاء لصاحبها ولمن حوله لإيقاظهم من غفلة ما أو إعادتهم عن طريق سيؤدي بهم إلى خسارة الآخرة أو يجرب به الله صبر المقربين منه، هناك حكمة قد نعلمها بعد حين أو قد يتأجل بيانها إلى يوم الحساب لكن ...) شدت على كفها تضيف بثقة (كوني أكيدة من أن أكبر خسارة، وليس هناك بعدها خسارة أن يموت الانسان على سوء يفقده رضوان ربه وحسن منقلبه في آخرته، غير ذلك يا بلسم فبعون الله هو أقدر بمد عبده بالشفاء كما ابتلاه بالمرض، ومده بالنعم كما حرمه منها، ومده بالسرور بعد الحزن، وضعي في رأسك ان البلاء لا يمتد كالرخاء إن أردت الشفاء والعودة إلى أفضل مما كنت عليه في السابق وجب عليك شد أزرك بالتقرب من الله، فذكره يهون على القلب ويشرح الصدر، سيكون لك عونا كبيرا جدا يا بلسم.) مسحت دموعها وهي تبلع ريقها، فأضافت طائعة قبل أن تقوم، فقد تحدثت إليها بما فيه الكفاية، وستدعها تستوعب بروية وصبر ككل مرة (هذا يكفي لليوم، ارتاحي وتنفسي جيدا، واجعلي الزفير أطول من الشهيق حتى تسترخي...) أومأت لها الفتاة باستسلام وقد بدأت بالفعل بالتنفس بانتظام.

***

(بئر السواد)

حملت كيسها البلاستيكي وأشارت لهما لتتقدماها، فتحركتا على مضض حين نبهتها إشراق بسخرية ممتعضة (احذري يا سترة، الحيات لا تلدغ إلا حين تجوع أو تخاف.) استدرن إليها كل واحدة بملامح مختلفة، وهي تداعب قطها وتلاعبه، فنظرت سهر إلى سترة تسألها بتوجس (إلى أين سنذهب يا سترة؟ أنا لن أتحرك من هنا حتى تجيبينني.) زفرت سترة ترد بضجر، وهي تتقدمهما مغادرة (اتبعاني بصمت إن أردتما.) انحسرت خطواتها حين وجدته في وجهها خارجا، يسألها هو الآخر بعبوس (إلى أين؟) بلغ بها الحنق مبلغه فهتفت بعصبية ما جعله يقطب جبينه بدهشة (إلى الجحيم! ابتعد عني!) استغفرت سترة سراً حين أولتهم ظهرها تسأل الله الحفظ، بينما هو يكتف ذراعيه إلى صدره، وسهر تبتسم له بتوتر في نفس اللحظة التي قالت له رباب، وهي تتأمله بغموض (اعذرها، فمن يعاشر والدتك يفقد عقله وأعصابه.) رفع جانب فمه معقباً بتهكم (ماذا يجب أن أفهم من حديثك هذا؟) ثم أسرع ليلحق بالأخرى على الباب الخارجي (هل تعلمين ماذا سيحدث لك لو ألقت الشرطة عليك القبض بدون هوية؟!) تخصرت تزم شفتيها بنقمة فتعلقت أنظاره بتعبيرها ذاك، وعقله يلوم والدته على ما يستجد عليه من غباء بينما هي تهتف بحنق (لقد حدث بالفعل مرتين ولم يفعلوا شيئا.) (ماذا؟ كيف؟!) تساءل بذهول فكان دورها لتكتف ذراعيها، ترمقه بضيق حين تدخلت رباب تعقب بنبرة عابثة (الفتاة تستطيع تدبر نفسها يا رجل! خصوصا مع الشرطة.) ثم ضحكت بميوعة اختفت بسرعة حين احتدت نظرات يونس التي انتقلت إلى سترة المفغرة لفمها بصدمة بينما سهر تعقب بامتعاض (يا إلهي! من هذه الفتاة!؟) هتف يونس بغضب احتشد بقوة داخله (لماذا أنت صامتة؟ ماذا تقول هذه؟!) اهتز بدن سترة من هتافه، فالتفتت إلى رباب ترمقها بعبوس (لا أعلم ماذا تقصد؟) تكومت رباب على نفسها، فمسح يونس وجهه ليهدئ من انفعاله المفاجئ له بقوة اندفاعه عبر أحشائه ثم سألها من بين نواجذه المطبقة (كيف يطلقون سراحك دون هوية؟!) وكأنها جفلت للحظات قبل أن ترد عليه بتفكير بدا جليا على ملامح وجهها (كل مرة حدث فيها ذلك يتلقى الشرطي رسالة من هاتفه اللاسلكي فيطلق سراحي، أنا..) رفعت رأسها إلى يونس الذي يشاركها التفكير، فتدخلت رباب قائلة باستعجال مفاجئ (سنتأخر يا سترة، أنت محظوظة والشرطي قد يكون في عجلة من أمره.... هيا بنا!) هزت رأسها تنفض عنها الحيرة، وغادرت برفقتهما، وهو يشيعهن بنظرات أظلمت بدكنة مخيفة.

***

(مكتب اسماعيل)

انتفض جارح بعصبية، مستنكراً بحزم ساخط وإن ألجم من تهوره (أنا لا أفهم ... لماذا تطلب مني التراجع؟) زفر طارق بضجر، يبحث عن طريقة لإفهامه دون أن يفصح عن الكثير من المعلومات، فقد اقترب جدا من تحقيق هدفه، ولن يدع أحدا يفسد عليه عمله (أنا أطلب منك بصفة ودية، ما تفعله سيفسد علينا خططنا للإيقاع بالشبكة.) تخصر جارح ينظر إليه بعبوس، وطبيب النفوس على كرسيه يراقب الوضع بصمت (كل ما أريده هو إيجاد سترة، وهو يخفيها لا ريب!) تحدث إليه جارح بجفاء فزم طارق شفتيه يرمقه بغموض حتى تدخل إسماعيل بهدوء (هل وجدت شيئا جديدا يخص الفتاة يا طارق؟!) زفر مجددًا قبل أن يجيبه بجدية (الأمر أكبر مما تظنانه أو تبحثان خلفه، وما يفعله جارح سيؤثر على سير الأمور، وسيخسر الكثير من الضحايا، غير من تبحثان عنها،... ابنة عمك مثلا!) التفت إلى جارح مع آخر حديثه، فقطب الأخير يسأله بصدمة (المجرم الذي اعتدى على ابنة عمي من عصابة الحقير الآخر؟!) أومأ له بخفة وأضاف برجاء (من فضلك يا جارح، تراجع وامنحنا بعضا من الوقت، وإن كنت تريد مساعدتنا حقا، أقنع أفراد عائلتك بالتحدث إلينا بالحقيقة.) بلع جارح ريقه بينما الجمود يطغى على ملامحه، وإسماعيل يراقبه عن كثب (حتى الفتاة يجب أن تفضي بكل ما تعرفه، وهكذا نجمع الخيوط من كل جهة.) استدرك طارق فأخبره إسماعيل بمهنية (ليست مستعدة بعد، وأهلها يحاولون أقصى ما لديهم لكي يخرجوها، يخشون مما ستقوله.) جلس جارح على كرسيه يفكر بتمعن رحل به إلى الماضي حتى جفله سؤال إسماعيل(ما رأيك جارح؟) (ماذا؟!) تساءل بعدم فهم فأعاد عليه حديثه (أخبرت طارق بأنك ستمنحه بعض الوقت.) تنهد يشبك كفيه بقفازيهما الأسودين ثم قايضه بجدية (إن أخبرتني بأن شقيقة غانم رحمه الله حية وفي حمايتك، سأكتفي بكلمتك، وأتراجع لبعض من الوقت لكنني لن أغادر حتى ينتهي الأمر.) عبس طارق بتفكير يرمق إسماعيل باستجداء، فأمال المعني رأسه قائلا (لا تنظر إلي هكذا، أنا أيضا أريد الاطمئنان عليها فهي أمانة غانم التي حمّلها لكل من صادفه واستحق ثقته.) استسلم طارق يرد عليه بعدم رضا، وبعض من الاعتذار لإسماعيل (هي حية ترزق، وقد عرفت منذ مدة، وأجل هي في حمايتي مع أنها لا تحتاجها في ظل وضعها الغريب.) اكتسحتهما الريبة والحيرة من قوله فأضاف وهو يفارق كرسيه (ها أنا وفيت بشقي من الاتفاق، وأنتظر منكما المثل، آمل أن تنجح بإقناع عائلتك يا جارح، السلام عليكم.) غادر فسأل جارح إسماعيل بفضول وحيرة (ماذا يقصد؟) رد عليه إسماعيل متجاوزا حيرته إلى التلاعب بالمعاني (قصده واضح أن تقنع عائلتك، وهذا يعني أن تعود إليهم.) أسبل أهدابه قبل أن يجيبه بجفاء لم يخصه به (وأنا قصدت الشق الذي تحدث فيه عن سترة.) استقام إسماعيل واقفا يقول له بنبرة ظاهرها اللطف وباطنها الحكمة (لقد وعدت، ويجب أن تفي بوعدك، فأنت توفي بوعودك، غانم رحمه الله، كان واثقا من ذلك.) شع الفخر ممتزجا بالحنين من مقلتيه، ولامس نبرته التأثر (سأتراجع لبعض الوقت، لا تقلق!) اقترب منه ورفع يده كي يربت على كتفه، فعاد جارح إلى الخلف بعفوية شعر بعدها بحرج من الطبيب الذي تحدث بنبرة ذات معنى رافقها بنظرة ظافرة (هذا وعد جديد يا جارح؟ ماذا عن الوعد قديم؟) صمت جارح مكتفياً بالنظر إليه، فاستطرد إسماعيل بلطف (أنت لست بخير يا جارح، امنحني فرصة أو لطبيب غيري، لكن لا تدع الماضي يتحكم بحاضرك ومستقبلك.) أومأ له بتفهم وشرود ثم سأله بتردد (متى يمكنني رؤية ابنة عمي؟) ابتسم إسماعيل بأمل بينما يجيبه (يجب أن تسمح لك طبيبتها المعالجة.)

***

(دار الأيتام بيت الجبل)

تديران رأسيهما بتفحص بينما تجوبان المكان بفضول، وهما تتبعان سترة بصمت عبر الطرقة المعبدة بالحجر وسط الساحة الكبيرة، والمليئة بأطفال من مختلف المراحل العمرية، منهم لاهين يلعبون، ومنهم من يجلس تحت الأشجار يستظلون بها منشغلين بالرسم أو بالحديث. تقدمتهما عبر الباب الداخلي منه إلى رواق طويل ينتهي بمدخل كبير لا باب له، يفضي إلى مساحة مفتوحة يقبع فيها مكتب صغير، خلفه فتاة في منتصف العشرين، ترتدي عباءة أنيقة محلية الصنع عليها طرحة طويلة من نفس لون العباءة، ما إن لمحت سترة حتى وقفت باسمة مرحبة بها (مرحبا

You are reading the story above: TeenFic.Net