الفصل الثالث
الحرمان قد يكون طريق العطاء، لأنه ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك، وقد يكون المنع عين العطاء... محمد راتب النابلسي.
(مشاهد من الماضي.)
(القسم النفسي في المستشفى العام لمدينة الجبال.)
انتصب الرجل على مقعده ببدلته الأنيقة يكسوها معطف يوازيها أناقة، يناظر طبيب النفوس بمقلتين رغم ما يوهنهما من غورٍ لا ترتعد فيهما الحدة.
*الملاحظات؛ تدهور عضوي، تماسك ظاهري، لوم الذات.*
(كيف حال صحتك سيد غانم؟) هز رأسه وهو يلصق كفيه بأعلى ركبتيه، يجيبه ببسمة باردة (الحمد لله ...أفضل مما يجب أن تكون عليه من وجهة نظر الأطباء.) انتظر إسماعيل قليلا ثم باح له بملاحظة (ما تزال هنا، ظننتك ستيأس وتعود إلى المدينة السياحية.) تلكأ وكأنه يبحث عن رد لم يسعده (لم أجدها بعد، لكنني لا أستطيع فقدان الأمل فيها هي الأخرى.) حرك إسماعيل عويناته يتمعن في ملامح وجهه الشاحبة.
*الملاحظات؛ أمل زائف، البحث عن صلة بالجذور.*
(ماذا ستفعل إن لم تجدها؟) انبثقت الحيرة من قلب ملامحه ثم هز كتفيه يرد عليه بهدوء (لن أيأس، سأظل أبحث عنها.) (لماذا هي بالذات دوناً عن باقي عائلتك؟) طرح عليه سؤالاً متوقعاً اجابته التي احتدت مقلتا غانم له أكثر بينما يمنحه له بجمود (هي عائلتي! لا أحد منهم عائلتي، هي لوحدها.) ضيق إسماعيل مقلتيه قليلا يعقب بحذر (هل صدقتكَ حينها؟) على غير توقعه، لاحت شبه ابتسامة حنين لحبات نور نادرة وسط ماضٍ مظلم كالنجوم حين تزين سماء شديدة السواد (كانت صغيرة جداً، وأظن صغر سنها وبراءتها ما جعلها تصدقني في الوقت الذي تبرأت فيه مني باقي عائلتي، أولهم والداي.) عادت القسوة لتنقض على مقلتيه عند ذكر والديه، فناقشه إسماعيل (ما تزال على شعورك حتى بعد وفاتهما!) تنفس بصعوبة أبدته أكثر وهنا ثم رد اليه (منحتهما مسامحتي قبل موتهما لكن مصابي يرافقني فلا يدعني أنسى السبب.)
*الملاحظات؛ غضب عميق، بحث عن التعويض.*
(لماذا ساعدت ذلك الفتى؟) وجهه لطريق آخر ليواجه عمق نفسه، فتجمدت ملامحه وكأنه فوجئ من تغير مسار الحديث (إذا توقعت عدم سؤالي عنه، فلما أخبرتني بما حدث معه؟) هز كتفيه النحيفين بخفة يرد عليه وهو على استقامة عوده (توقعت سؤالك عنه حين أخبرتك من قبل.) ابتسم إسماعيل بعملية وهو يجيبه (أغلب الأسئلة تتوه ردودها إن لم تُسْأل في وقتها المناسب.) بادله بسمته الرسمية بينما يهز رأسه ثم أفصح له عن مشاعره (رأيت فيه نفسي في مثل عمره، ضائع في الأزقة، وكانوا ...) صمت يشد على شفتيه بألم، فأكمل عنه إسماعيل (أنت أنقذته من بين براثن الدعارة!) اتسعت مقلتاه الغائرتين بشكل طفيف، ورطب شفتيه الجافتين شحوباً.
*الملاحظات؛ أعراض رد الفعل ذاتها، عدم تجاوز الأمر رغم نكران آثاره.*
(هل كنت تتمنى منقذا مثلك يا سيد غانم؟ يأتيك في نفس تلك المرحلة من عمرك؟) راقبه بسهو، وكأن الكلمات تتجسد أمام بصره على شكل سهام سامة موجهة إلى أحشائه، ولم يتحدث إلا بعد مدة (ربما، أنا لم أفكر حينها، شيء ما جعلني أسرع إليه أنتزعه منهم، وأهددهم بإبلاغ الشرطة إن لم يطلقوا سراحه.) رفع إسماعيل وجهه ينظر إليه، وهو يسأله (أين هو الآن؟) جعد ذقنه مجيباً بهدوء (في مكانه الطبيعي، على مقاعد المدرسة. ) أمال رأسه قليلاً يسأله بنظرات مبهمة (كم يبلغ من العمر؟) جعد جبينه يرد عليه بحيرة (خمسة عشر سنة.) فعقب إسماعيل بتفكير (ممممم... أليس من عمر شقيقتك التي تبحث عنها؟) زفر الرجل بمشقة ممسكاً بصدره، وشحوبه يتضاعف، فاستدرك إسماعيل وهو يسحب آلة التسجيل على المائدة المنخفضة (لنكتفي بهذا اليوم، ما رأيك بأسبوع تفكر فيه جيداً، وسأعيد طرح السؤال عليك بإذن الله.) تشنجت ملامحه بتهكم بينما يرد عليه (وما أدراك بأنني سأعيش لأسبوع آخر؟) ابتسم إسماعيل بمودة يرد عليه بثقة (لا أحد منا يضمن عمره، مرضك لا يحرمك من امتياز تمنحه لي العافية، كلانا في طريق الحياة بأقدارها المتقلبة، وقد يكون عمري أقصر من عمرك، وكلنا لنا آمال نسأل خالقنا أن يحققها لنا.) رمقه بتقدير وهو يستقيم كجندي متأهب، وصافحه شاكراً ثم حيَّاهُ لينصرف
***
وبالرغم من أناقته ببدلته ذات العلامة التجارية الفخمة، كفخامة المعطف فوقها إلا أن شحوب بشرته ونحول جسده حتى برزت عظام وجهه يكشفان عن مدى خطورة مرضه، وتعبه الشديد الذي يحاول إخفاءه بكبرياء، وهو يجلس باستقامة جذعه، ويضع رجلا على أخرى ملتحمتان ببعضهما من شدة نحولهما، وعلى قمة ركبتيه تستكين كفاه، باطن إحداهما على ظهر الأخرى. (أعتذر إليك دكتور، لا طاقة لي بالوقوف كي أصافحك، ولا أظنك تريد مصافحتي، والدليل ظاهر على محياك.) تمالك إسماعيل نفسه، واقترب منه يمد له يده لمصافحته بينما يرد عليه بود (الصدمة على وجهي لأنني لم أتوقع استسلامك للمرض، فأنت مقاتل شرس، وقاتلت الحياة بضراوة وشجاعة.) رمقه بتأثر يخص به طبيب النفوس دوناً عن غيره، يجيب وهو يضم كفه بكلتا كفيه (أنت قلتها يا دكتور، قاتلت الحياة... معركتي الآن مع الموت، ولا أحد ينتصر على الموت، لا أحد.) رفع إسماعيل كفه الحرة، وربت بها على كفيه الدافئتين بلطف، فتركه الأول ليجلس بالقرب منه بخلاف عادته باستعمال المقعد البعيد أمام المرضى (كيف حالك يا سيد غانم؟) ضم شفتيه كما ضم كفيه المرتعشتين، وهو يرد عليه بحزن (رائحة الموت تحيط بي يا دكتور، ولا يهمني سوى أمرين اثنين.) انتظره بصمت ليكمل، فاستطرد (كيف سيكون لقائي بربي؟! ثم شقيقتي التي لم أجدها بعد.) أومأ له بتفهم ثم خاطبه بلطف (أحسن الظن بالله ستجده عند ظنك به، أنا لم أكن متأكدا من عودتك حقيقة، وكنت أنوي الاتصال بك.) ما يزال الرجل على بسمته الحزينة وهو يجيبه (لا أعلم لماذا عدت؟! لكن شيئا ما يربطني بهذا المستشفى، كما أنني لا أستطيع الافتراق عن هذه الجبال رغم كل ما عشته فيها من عذاب، قررت أن أدفن تحت ترابها، وقد أُوفّق وأجد شقيقتي قبل أن تفيض روحي إلى بارئها.) هز إسماعيل رأسه، وقال له بهدوء (لا يهم سبب عودتك كما لا نعلم متى ستموت، فرغم خطورة مرضك ما قُدر لك من أيام لتحيياها ستكملها عن آخرها لا أقل ولا أكثر، وكذلك باقي البشر، أما شقيقتك، ادع الله ليحفظها أينما كان مكان وجودها.) عاجله قائلا بلهفة (لا يمر يوم أو صلاة دون أن أدعو الله بحفظها.) بتر كلماته والوجع ظاهر على محياه، فأكمل إسماعيل بود (ليس هذا فقط .. كيف حال ذاك الفتى؟) زم شفتيه بخفة يفكر لوهلة قبل أن يرد عليه (يجب أن يرى طبيبا نفسيا، لا أظنني لحقته قبل أن تنال منه بعض من بشاعة الدنيا، لكنه سينجو، بإذن الله سينجو.) ابتسم له إسماعيل بينما يهز رأسه موافقا، فاستطرد برجاء (أريد منك خدمة، وأتمنى أن لا ترُدني.) لمع الصدق في نظراته بينما يرد عليه بصدق (لو كان باستطاعتي، لن أتأخر..) شكره ثم تابع (لقد تركت وصية، ورتبت أموري، كما تعلم لدي أناس قريبين مني لكنهم ما يزالون قاصرين من ضمنهم شقيقتي إن وجدتها في حياتي أو بعد وفاتي، المجلس الإداري للمجموعة سيستمر على نفس منوال العمل بعد وفاتي إلى أن يستلم بعض من القريبين مني مناصبهم حين يكملون العشرين من عمرهم، ويستلمون حصصهم، شكلت لجنة من أناس أثق بهم، ليتابعوا سير الأعمال كل ثلاثة أشهر، ثم يحضرون حين موعد تسليم الحصص لأصحابها، وأتمنى أن تنضم إلى اللجنة.) انتظره بترقب تحول إلى ارتياح حين اتسعت بسمة إسماعيل يرد عليه بتأثر (أنا أشكرك على ثقتك بي وبالطبع يسعدني المشاركة في الخير الذي تفعله، هذا طبعا إن لم يسبق أجلي أجلك تقبل الله منك.) (آمين يا رب، بل أشكرك دكتور على موافقتك، سأرسل لك الأوراق مع المحامي غدا بإذن الله، ولتتفقا على الراتب.) قاطعه إسماعيل بعتاب (لا يا سيد غانم، شرطي الوحيد هو أن أفعل ذلك لله فقط.) حل عليهما الصمت بعد أن أومأ له بتفهم، فسأله إسماعيل بترقب (هل سامحته يا سيد غانم؟ أقصد شقيقك الكبير؟) رفع المعني رأسه مجفلا واكفهر وجهه النحيف للحظة وجيزة تحولت بعدها ملامحه إلى تفكير، وهو يجيبه (قد لا يصدقني أحد بعدما فعله بي، حتى نفسي قبل أن أصاب بالمرض.) تلكأ قليلا كأنه متردد ثم استدرك وهو ينظر إلى عينيه بنبرة أرعدت قلب إسماعيل (حين يكون المرء على شفا خطوة من الموت، وهو على معرفة أكيدة بذلك يسترخص كل شيء في الدنيا حتى الظلم.) ارتفعت زاوية فمه بتهكم، يكمل (ما كنت أحاول نسيانه طوال حياتي ولم أفلح أصبحت أنساه منذ أن أضحى الموت قريبا، قريبا جدا مني، وقد سبق وأخبرتك بما يهمني الآن.) تحدث إليه إسماعيل باستفسار (هل هذا يعني أنك تصالحت مع نفسك؟) تحولت بسمته إلى الهدوء، وهو يجيبه بتلقائية (كل ما أعرفه أنني لم أعد أذكر شيئا يتعلق بالدنيا، حتى لا وقت لدي لأذكر شيئا آخر خارج نطاق هدفيّ.) غيّر إسماعيل الموضوع كليا، يسأله باسما بمودة (أنت لم تخبرني باسم شقيقتك من قبل.) غزا الحنين تقاسيم وجهه التعب، وهو يجيبه بدفء (سُتْرَة آل منصور.)
***
(الحاضر)
(مدينة الجبال، منزل آل عيسى.)
(غرفة إسماعيل)
وعى من شروده، وحرك نظارته قبل أن ينتزعها بينما يزفر بحيرة ثم التقط هاتفه ليطلب رقماً ما (السلام عليكم جارح، كيف حالك؟) تلكأ يصغي إليه ثم تحدث إليه مجددًا (يجب أن نلتقي غدا إن شاء الله، أظن أنني تذكرت أمرا مهما، مجرد استنتاج قد يكون صواباً أو خطأ، حسنا... إلى اللقاء.) شعر بحركة جواره، فالتفت إليها ووجد زوجته تبتسم له بدفء مشوب بقلق، فاستفسر منها (هل كنت مع الصغار؟) هزت رأسها، وهي تجلس بجانبه ثم وضعت رأسها على صدره تقول له بقلق (إبراهيم يتعبني، سلوكه يقلقني.) ابتسم ممسدا على شعرها بحنو (لا تقلقي، تعرفين أنه أمر طبيعي في مثل ذاك العمر، ونحن سنقوِّم من سلوكه، وبإذن الله ربي يصلحه ويهديه.) رفعت أنظارها إليه لتفضي له بمخاوفها، وكأنها تفكر بصوت مسموع (هل تظن أننا قد نفشل في تربية أولادنا؟ أو قد! أقصد، يصبحون عكس ما نتمنى لهم؟) فهم قصدها فضمها إليه كي لا تلمح الخوف يعبر مقلتيه بوميض مظلم خاطف، وهو يجيبها بثقة يستمدها من حسن ظنه بخالقه (الطفل يا حبيبتي من خصائصه التعلم بالفكرة، والتعلم بالصورة، لا يستطيع الطفل أن يفرق بين المبدأ وبين الشخص، ونحن ولله الحمد نوفر لهم مثالاً حسناً بمحاولاتنا الحثيثة للالتزام بالصلاح، واعتناق مبادئ العقيدة الصحيحة على أمل أن يتعلموا منا لأنها أول أسس التربية.) قاطعته بحزن (لكن هذا لا يمنع وجود حالات تشذ عن القاعدة.) قبّل أعلى رأسها ثم أجابها مؤكدا على ما تعلمه بدورها يقينا لكنها تحتاج لمؤازرة، واطمئنان (أعرف يا حبيبتي لكننا سنفعل كل شيء من أجلهم، التربية بالتلقين، والتربية بالعقاب، والتربية بالموعظة والله معنا هو ولينا... لا تنسي ذلك أبدا، ولن يخيب ظننا فيه، ولن يضيع مجهوداتنا.) أمّنت على قوله، فران عليهما الصمت كل منهما يبتهل لربه في سره.
***
(المدينة السياحية)
(بيت أهل نوران)
بلعت نوران ريقها تضم إليها ملك بقوة حتى أنّت الأخيرة بألم، وهي تراقب شحوب وجه عمتها. صخب أنفاسها لم يسمح لها بفهم محتوى الحوار الدائر بينهم، وكل ما تلمحه حركات وتعابير وجوههم؛ بسمات والدها الودية والمشوبة بإحراج، ووالدتها التي حتما لا تصدق نفسها بتهافت الشباب على ابنتها الباردة يطلبون ودها كما تمنت، وذاك الرجل يبتسم بثقة واضعاً رجله على أخرى في حلته الجذابة، يكمل بها لوحة نفاقه البراقة... هي وحدها فقط تدرك حقيقة بشاعتها الخفية بين ألوانها المبهرجة؛ نبرته الرزينة، وبسمته الواثقة رغم السنوات التي أكسبته هيبة مزيفة بشعيرات فضية تخللت سواد شعره الذي بدأ بالزوال من على مقدمة رأسه. يبتسم لوالدها تارة ثم لوالدتها أخرى ثم ها هو ينتقل بعينيه الخبيثتين إليها، وها هي تلك اللمعة المقرفة تنضح من مقلتيه، لا أحد يميزها سواها، إنه يخبرها بما تفكر به في التو واللحظة، يخبرها بما كان بينهما، ارتفع القرف عبرت حنجرتها بعد أن هام عبر صدرها، "بينهما"... كيف ذلك؟ هي لم تكن طرفا بل ترفض أن تكون طرفا من "بينهما". الحقير يرمقها بجرأة لا يفهمها أحد من والديها، مشيرا إلى ماض يجمعهما، رغما عنها يجمعهما، وإن كانت الطرف المغصوب، وإن كانت الطرف الضعيف، فهي طرف من "بينهما". تنبهت حين نظر إلى الصغيرة بين ذراعيها، وشفتاه تتحركان بكلام ما، فأرغمت نفسها على التركيز (الصغيرة جميلة مثلك، إنها تشبهك كثيرا.) تثاقلت أنفاسها على عكس ما حدث معها سابقا، كما تثاقلت الأصوات حولها، وهو يرمقها ويرمق الصغيرة بالتناوب، وفي لحظة.... استدارت وانطلقت دون كلمة واحدة، وكلما أضافت خطوة، أسرعت بالتي بعدها وقلبها يتسابق معها بل يتجاوزها بسرعة كبيرة. أغلقت الباب بالمفتاح ثم استأنفت هرولتها نحو السرير، ودون أن تنزع عنها حذائها سحبت طرف اللحاف، واندست تحته برفقة الصغيرة التي لم تتخل عنها، تشد عليها بقوة. ظلت صامتة بينما تجلس على ركبتيها، وتطوق الصغيرة في حضنها، يلفهما اللحاف حتى أنفاسهما لا تكاد تسمع. (عمتي؟!) لم تجبها، فأعادت الصغيرة نداءها وهي تراقب جمود قسمات وجهها (عمتي رورو؟!) نظرت إليها أخيرا، فاستدركت بحيرة (هل نلعب الغميضة؟) أطلقت سراح أنفاسها أخيراً ثم نظرت حولها لتحدد زوايا الغرفة الصغيرة، فتشعر بشيء من
أمانها المفقود قبل أن تعود إلى الصغيرة تجيبها بنبرة لاهثة (ملك لا تقابلي ذاك الرجل مرة أخرى أبدا.) عبست الصغيرة بريبة، وجهل بينما نوران تكمل بتحذير شارد (لا تتحدثي مع ذلك الرجل حين يأتي إلى هنا، أدخلي غرفتك وأقفلي الباب بالمفتاح، واختبئي تحت اللحاف، أو اسمعي!) هزت ملك رأسها، وشفتاها الزهرتين مفتوحتين بدهشة (نامي، كلما جاء في زيارة للمنزل اذهبي للنوم، ولا تردي على أمي إذا بحثت عنك، اتفقنا ...ها؟!) ما تزال الطفلة تومئ لها بحيرة، فهزتها بخفة تطالبها بتأكيد (عديني ملك، عديني بأنك لن تقابليه، ولن تجلسي على حجره أو حتى تسلمي عليه، عديني.) شعرت الصغيرة بخوف من قسوة ملامحها بالتزامن مع قوة ضمها لها، فتشنجت ملامحها الصغيرة تقول لهت بخوف (عمتي، أنت تخيفينني.) شلت أطرافها بينما ترمقها بمقلتين جاحظتين ثم أطلقت سراحها على حين غفلة، ونهضت لتقف على رجليها، وضمت ذراعيها متكومة على نفسها، والصغيرة على السرير ترمقها باستغراب عبر عنه (ماذا بك عمتي؟) زفرت نوران بقوة ثم عادت لتجلس باعتدال على طرف السرير مستديرة إليها ترد عليها بتحذير أكثر تعقلا وكياسة عن هدرها السابق (ذاك الرجل صديق أبي، لا أريدك أن تقابليه مهما كان السبب حتى لو طلب منك أبي أو أمي ذلك، فقط تحججي بأي شيء، وبلغيني من هاتف البيت، اتفقنا؟!) قامت الفتاة واقتربت منها تجيبها بتلقائية، وحب تكنه لها (حاضر عمتي ....أعدك.) ضمتها ومرغت وجهها في شعرها تشم عبيرها العطر عنوان البراءة والنقاء، تستمد منه بعضا من السكون لنفسها، تفكر بما ينتظرها من خيارين أحدهما علقم، والآخر سم قاتل.
***
(مدينة الجبال)
في بناية فخمة أبعد ما يكون عن بئر السواد بواجهتها الراقية، وتنسيقها الأنيق تشع منها ليلا أنواراً براقة تخطف الأنظار، بريق يجذب كل طامع وكل فاقد حكمة يُستدرج بحبات فتات تلو الأخرى إلى أن يجد نفسه في ظلمة غائرة، لا يكاد يلمح فيها كفه إذا قلبها، فيقف على الحقيقة الصادمة أن المكان الفخم ببريقه الخاطف وأنواره البراقة ليس سوى أعمق نقطة سحيقة من بئر السواد.
وإلى هناك تحملها خطواتها المتمهلة بتمايل مدروس، تعلمته ومثيلاتها كطريقة مهمة للبراعة في عملهن، هذا ما تنفك تقنع به نفسها، وغيرها يفعل، أوليس كل من يعلل لنفسه سوء خطيئته يدعوها بالعمل؟! تلفتت حولها في ذاك البهو الكبير البارد، يحيط بها هواء بارد زائف ككل ما يحتويه المكان من زيف، فلم تجد أحدا كالعادة سوى رخام فاخر يواجهها في كل اتجاه؛ البلاط والجدران. واجهة منمقة لما اكتشفت لاحقا بأنه الفخ المحكم، والمصيدة. ابتسمت ساخرة بمقت من الكلمات الأخيرة ثم مسدت على فستانها المعانق لقدها الرشيق، وهي تقترب من هدفها حين التقت بفرد من أعضاء الظلمة، تعرفت عليه رأسا دون لحيته وثوب الصلاح *ثوب الفخ* الذي يستدرج به ضحاياه. كيف لا تعرفه وهو من اصطادها ليلقي بها داخل البئر دون رحمة؟! وكان هو المصيدة التي تلقفتها على حين غفلة؛ غفلة منها وغفلة عنها. ابتسمت بتشفي، وهي تلتقط ملامحه الساخطة توحي بما ناله من توبيخ صارم من.... اقشعرت أطرافها من تذكره فكان دوره ليبتسم بلؤم وهو يقترب منها هامسا بفحيح (كنت حانقا بالفعل من غضبه لكن الآن، وبما أنه سيقابلك، بشكل ما سعيد بإغضابي له، سيكون حنونا معك.) ثم ضحك بصخب انقطع حين ردت عليه بحقد (يبدو أن ضحيتك هذه المرة افتضح أمرها، وباتت المدينة بأكملها تعرف حكايتها وخلال نصف يوم فقط، هل هذا ما أغضبه يا ترى؟!) تلكأت قليلا لتمط شفتيها المطليتين فيما يشبه بسمة قبل أن تكمل، وهي تميل برأسها المكسوة بخصلات شقراء (اضطراره الوشيك للتضحية بأحد أتباعه في سبيل البئر؟!) احتدت ملامحه، ودنا منها ليستفزها بفحيحه المثير للبغض (هل تعلمين؟! ضقت ذرعا بالجثث الغائبة عن الوعي، وبما أنك أصبحت من أفضل محترفات العصابة، فربما أسعى لفرصة أخرى معك وأنت بكامل وعيك!) اشتدت بغضها المرتسم على وجهها بتعبير كريه، تجيبه بفحيح أشبه بفحيحه (أقسم إن اقتربت مني سأحرقك وأحرق البئر بمن فيه.) استقام واقفا يبتسم بتهكم، وهو يدس كفيه في جيبي سرواله، قائلا باستخفاف (أنت تحلمين، ولا تنسي أنك "بمن فيه".) استقامت بشكل حاد ثم اقتربت منه بمسافة مدروسة لتظهر له مدى ضعف نفسه الحقيرة، فاستجاب لها متمعنا بتقاسيم وجهها التي ظلت بشكل ما تتشبث ببراءة كانت تملكها، وفقدتها على يديه، وهذا ما يجعلهم يتمسكون بها فهي بدورها تشكل فخا بارعا ببراءتها المزيفة. تمالكت ارتعادها من الحقد عليه دون أن تخفي قرفها منه يكسو سحنة وجهها حين نطقت بغل أحرق نياط قلبها (لا يغرنك عمق البئر، فكلما زاد عمقه سهل تفجيره ...بوووووووم!!) تعلقت مقلتاه بمحياها ثم أظافرها حين جمعتها وفتحتها إشارة إلى الانفجار، بينما هي تكمل بنفس النبرة الهامسة والمتأرجحة بين الحقد والتهكم (حينها سينهار سطحه ليدفن قعره، والنار تحته تتقد، وتشتعل بحطبها، وصدقني...) ابتعدت أخيرا عنه تضيف قبل أن تتركه، وتستأنف طريقها (سيسعدني أن أكون من ضمن حطبها فقط لتحترق البئر بمن فيها يا .....دجال!) اقشعرت أطرافه، فبلل شفتيه وزفر بينما يعدل من طرفي ياقته ثم عقب بعدها بلحظة وهو ينسحب (مجنونة، حتما مجنونة.)
دقت الباب قبل أن تدخل حيث تناهت إلى أسماعها أنغاماً موسيقية من نوع الأوبرا تنافس الغرفة في برودتها المزيفة كزيف صاحب البناية، فلاحت بسمة ساخرة على جانب ثغرها حين لمحته على مقعده الضخم خلف طاولة مكتبه، كملك على عرشه بتلك الحواف الذهبية يجاوره أحد سواعده التي لا تدري هل تدعوه يمنة أو يسرة، فسكنت مكانها، ومساعده يُشعل طرف مبرم التبغ المكلف، أو ما يطلق عليه السيجار ثم وضعه على المنفضة أمام المتظاهر بتذوق النغمات التي لا تعدو عن كونها صراخا يقع على رأسها بمزيد من المطارق، ويبدو أن المساعد لمح تعبيرها حين رفع رأسه إليها مبتسماً بمكر صاحبه إلى أن مر جوارها يهمس لها قبل أن يتجاوزها خارجا (أريد رؤيتك بعد أن تنتهي مع الرئيس.) بلعت غصة مقرفة لم تعد تفارقها، وتقدمت خطوات من طاولة المكتب، تنتظره لكي ينتهي من استمتاعه المتظاهر بتلك الصرخات الناضحة من مكبرات الصوت تكاد تفقدها عقلها كلما تعالت إلى أن رفعت كفها تمسد أذنها، فقرر النطق أخيرا يسألها دون أن يفتح مقلتيه أو يرفع رأسه عن مسند مقعده (هل نجحت بكسب صداقتها؟) ضمت شفتيها وتشنجت ملامحها بينما ترد عليه بتردد (لقد أخبرتك بأنها لا تصادق المو... أقصد من هن مثلي.) فتح مقلتيه مع حدة نبرتها في آخر حديثها ثم بسط كفه إلى السيجار وحمله ليدسه بين شفتيه بطريقة لمحت زيفها هي الأخرى، فتهربت بمقلتيها بعيدا عنه مطلقة سراح أنفاسها حين رد عليها بلؤم تجسدت بسمته على جانب ثغره (استغلي نقطة ضعفها إذن!) حدجته بنظرة قاتله تقبلها على رحب، وهو يكمل بقسوة باردة (ألم تكوني يوما مثل تلك الفتيات اللاتي تسرع إلى مساعدتهن؟!) ردت عليه بحقد، وقد احتشدت الذكريات البشعة على عين خيالها (لماذا لا تستدرجونها بنفس الطريقة إن كنتم تريدونها بذلك اليأس؟!) تراجعت بعد ما نطقت به تتوقع غضبه إلا أنه ولغرابة الأمر ظل هادئا يزفر الدخان من صدره قبل أن يجيبها بتعبير مبهم للغاية (لا، أنا أفضل أن تدخل البئر برجليها وبرغبتها، وإن أفلحت في دفعها لذلك حصلت على تذكرة خروجك منه، أليس هذا ما تريدينه؟!) فغرت شفتيها بدهشة وبسمته الخبيثة تتسع، مردفاً بنفس الخبث (إن دخلت هي خرجت أنت...انصرفي!)
***
(بعد أسبوع)
(المدينة السياحية)
(مقر المجموعة غانم آل منصور)
أسرع أسامة خلف نوران ليوقفها لكنه لم يلحق بها، فتوقف يزفر بحنق يحدث نفسه (تلك العنيدة، يا إلهي! كل ما أريده الحديث معها ...مر الأسبوع ولم أتمكن من رؤيتها مرة واحدة.) علا رنين هاتفه، فتنهد يرد على مخاطبه (نعم يا جارح، ماذا هناك؟!) أنصت لبرهة ثم رد عليه (أخبرتك بأن ما تفعله لن يأتي بنتيجة، الدكتور إسماعيل محق باستنتاجه، أحد ما يخفيها، أنا وأنت نعرف من قد يكون!) صمت مجددًا ثم رد عليه بعدها بقلق (أجل الليلة...وتلك الحمقاء تتهرب مني.) مسد جبينه يقول له مودعا (نعم، كل شيء على ما يرام لكن يجب أن تعود قريبا...سلام.) علا رنين هاتفه مجددا، فنظر إليه متنهدا بقلة حيلة، وفتح الخط بينما يمشي نحو سيارته (أمي مرحبا، أجل، أنا قادم.)
***
(مدينة الجبال)
منذ أن غادرت المستشفى وشعور غريب يغمرها، وكأن أحدا ما يراقبها أو يترصد لها. استعجلت من سيرها مانعة رأسها من التلفت خوفا أو شجاعة واهية، لا تدري حقا، لكن قلبها دق هلعا حين عاد شعورها ليحتل صدرها، فالتفتت رغما عنها تلمح ظلال الظلام، وعادت إلى النظر حيث موطئ قدميها، تشتم المكان وبؤسها الذي يجبرها على البقاء فيه، وما إن تراءت لها البناية المتهالكة حتى أطلقت ساقيها للريح. أغلقت الباب بعنف واستندت عليه تتمالك أنفاسها الفارة منها حين أجفلت على نبرته الذكورية الرخيمة (ما بك؟) رفعت رأسها وكفها ما تزال تمسك بصدرها، فبللت شفتيها وتجاوزته مجيبة بجفاء (لا شيء.) شيعها بنظراته الغامضة ثم سألها (ألم تقرري بعد؟) توقفت لتأخذ نفسا عميقا تهدئ به فرائصها ثم استدارت إليه تقول له بحدة، فقد طفح بها الكيل من كل شيء يحيط بها (لا أملك جواباً غير ما أخبرتك به! ألا تفهم؟! يا إلهي!) خفتت نبرتها التي تهدجت من فرض الضغوطات تبشر بغيث من غيومها السوداء لعلها تسقي جفاف أحشائها، فتجمد مكانه يحبس أنفاسه حين تغيرت نظراتها إلى الحزن، وسقط قناع الجمود عن قسماتها كاشفاً عن حقيقتها الكامنة... شابة صغيرة، ضعيفة كانت طوال الوقت تدّعي الشجاعة بردودها العنيفة كأخرى لا تكاد تفارق ذهنه ويشتاق إليها حد الوجع، حد البكاء، وحد الهروب منها، الهروب من لقائها الذي قد يضعفه، ويغريه باللجوء إلى الحضن الدافئ للعائلة الحقيقية، وهو لن يفعل! ليعفو عنه ربه وليسامحوه جميعا، لن يفعل حتى يستحق العيش بينهم بكرامة، ولا يكفي ما فعله، أجل لا يكفيه! وحين يحقق الهدف بمعالجة الأصل والجذور، حينها فقط قد يستحق الحياة بينهم. رمش بجفنيه مرة واحدة بالتزامن مع حركة تكاد تلمح من رأسه لينفض عنه وهن قلبه في حين كانت هي تتمالك نفسها عند أول الغيث لتعيده من حيث أتى، وإن لم تتخلص من رطوبته كليا (أمضيت عمري منذ وعيت على هذه الدنيا في البحث عن أجوبة لما تسألني عنه، هل تظن أنني سعيدة بحالي هذا؟! أنت لا تعلم شيئا، أنت...) زفرت بإحباط، فهم بالرد عليها لولا شجار الشقيقين المتكرر (ماذا فعلت لأبي حتى لا يهتم بغيابك عن المنزل؟ وحين أهاتف أمي وأطلب منها أن تريحني من حمقك ترد علي بأنها وأبي ملا منك ومن تصرفاتك الهوجاء وأرسلاك إليّ لأتحمل مسؤوليتك علّني أصبح رجلا حقيقيا! هل هذه خطة جديدة لتحويل حياتي إلى جحيم؟) نفخت سترة بضجر، وعادت للخلف خطوة بعيدا عن ذلك المارد الذي توقف بدوره دون حركة بينما الاثنان يبلغان جوارهما غير مباليين بهما (كما أخبرَتك أمي، لقد ملاّ مني ومن وجودي غير المجدي في المنزل، وأصبحا يُدَلِّلاّن عليّ لأتزوج، هل تصدق هذا؟! لم يترك أبي رجلا في الحي، وحتى في بلدتنا الأصلية يبلغ من العمر فوق الأربعين ولم يخبره عن ابنته العانس التي أكملت الأربعين، ولم ينظر إليها صنف ذكر تعِس!) لهثت سهر من
You are reading the story above: TeenFic.Net