الفصل السابع
"اعترافات"
انجديني من نيـــران شوقي إليك... فأنا عاشق كبلته الظروف
*******
-أعطني المفتاح يا محمد.. الآن!!
نطقت فاطمة بصرامة وهي تمد يدها لمحمد المتجهم وعلى وجهه تعبير رفضٍ قاطع ترجمه قائلاً
-أستمحيكِ عذرًا يا أمي لكني لن أعطيك المفتاح لتخرجيها، سوف تبقى في غرفتها حتى يوم زفافها على ابن عمها وهذا أخر القول
ضيّقت فاطمة عينيها وأردفت بشيءٍ من القهر
-هل جننت لتفعل هذا؟؟ .. هل حقًا تفكر في حبسها حتى يوم زفافها؟.. يجب على العروس أن تسترخي وتحظى بالراحة الكافية حتى لا يُصيبها التوتر وأنت تقول لي ستبقى في غرفتها إلى هذا اليوم؟؟ يكفي أنها لم تختر زوجها كباقي الفتيات في القبيلة وفُرض عليها فرضًا.. هيّا لا تُماطل وأعطني المفتاح
انتفخت أوداجه من الغضب، فهو الآن يتعرض للإهانة على يد والدته من أجل ابنته التي من وجهه نظره؛ مقصوفة رقبة لا تستحق أي شيء سعيد طالما تُسبب المشاكل دائمًا، قالَ بشيءٍ من التجهم بعد رؤيته لتحفز والدته
-نفسية !! واختيار زوجًا مستقبليًا؟!! تلك الألفاظ أول مرة نسمعها يا أمي.. من أين أتت؟!.. منذ متى وكان للفتيات رأيًا في اختيار أزواجهن؟، لقد تزوجت أمها وعمتها وبنات عمومتها بهذا الشكل؟! من هي لتتمرد على العادات بدلاً من وقوفك في صفها ضدي أخبريها أن تتعقل وتشكر الله أننا اخترنا لها زوجًا سيصونها ويحافظ عليها وهي بالمثل وحماد سيد الرجال وسيراعها جيدًا، هي محظوظة في أنها ستحظى به دونًا عن باقي الفتيات وهي لا تستحقه
أردفت فاطمة في صدمة بالغة واستهجان عارم
-تتحدث عن ابنتك كما أنها لا تسوى شيئًا، رفقًا بابنتك يا محمد، ليس لأن الجميع يسير على عادة خاطئة تتبعها أنت.. كنت أعتقد أنك أكثر رزانة من الانسياق وراء التخلف الذي حولك، وها أنت تسير وفقًا لإرادة أبيك دون تفكير
عقدت ذراعيها لصدرها في رفضٍ واضح وصارم لما يحدث مع حفيدتها، ولولا أنها أضعف من الوقوف أمامهم جميعًا بكونها امرأة كلمتها لا تمر إلا تحت كلمة زوجها "كامل" لفاضَ سخطها عليهم جميعًا وألغت تلك القوانين المتخلفة
وهو بدوره كان يستمع وكل خلية فيه تنتفض غيظًا ونفورًا من الحديث الدائر عن ابنته وحقوقها التي تتبجح بها كأنها ملكة الكون.. سيقتلها إن حاولت الهرب أو فعلت شيئًا يُهينه يوم زفافها من حماد، يكره كونه يخاف خطوتها التالية المُبهمة ... يشتعل من حسابه لتفكيرها الغير مألوف والذي يفاجئه كل مرة
سحقًا لقد جرّب كل شيءٍ معها.. كل شيء ولم تستسلم!!؛ ضربها، حبسها، حرمها من الأشياء التي تحبها ولكنها لم تزدد إلا تمردًا
هدرَ من بين أسنانه بعنف وقد فاضَ به
-اسمعيني جيدًا يا أمي، أنا لست صغيرًا حتى تذكري موضوع كلما تحدثنا لأني مللت كلما، وأخيرًا أنا أعرف جيدًا كيف أربي ابنتي العاقة التي كادت تهين كرامتي وتخفض هامتي وأنتِ كنتِ شاهدة على ذلك
-ألهذه الدرجة ترى ابنتك مُذنبة؟ حسنًا من كان السبب في اذنابها يا محمد؟ من أحكم عليها الخيارات وجعلها هكذا؟؟.. أنت السبب في شخصية ابنتك فلا تشتكي لأنها تفعل ما تراه يُنقذ كرامتها صحيح أنها متهورة بعض الشيء لكن هذا لا يمنع ما تفعله بها..
هزَّ رأسه يُمنه ويُسره في قلة حيلة ليعاود القول بثبات وجدية أكثر ومُقلتيه تستعران من الغضب للأمر الذي أخذَ أكبر من حجمه
-هل يصح أن تقف أمام الجميع بكل وقاحة وتطلب الزواج من سلطان؟؟... يا إلهي لقد شعرت في تلك اللحظة أني قليلٌ جدًا ولم أربي ابنتي جيدًا.. بل لم تُربى من الأساس
استشعرت فاطمة غضبه من الأمر، فقالت بحنو أموي مُنحية موقفها جانبًا، وقالت تنصحه
-يا حبيب قلبي أعرف أنها أخطأت خطئًا فادحًا ولا يصح ما فعلته في المجلس وأمام الرجال، لكن كنا لنتفادى هذا الأمر لو كنت قريبًا من ابنتك وتنصحها وهي بدورها تتقبل النصيحة... رابحة مُجرد فتاة طائشة، تلوح بيديها في الهواء بلا هدف... وترد على أذيتها، لكن لم ترَّ فقط سلبياتها؟ .. افتح عينيك وانظر إلى من أوصلها لهذا الحال
رأته يقف بنفاذ صبر لكنها لم تتمهل عليه وأخذ تستطرد بكل عنفوان مُدافعة عن حق حفيدتها للمرة التي لا تكل ولا تمل من عددها
-يا محمد، ابنتك طفلة في ثوب امرأة ناضجة، لم تعش طفولتها وبالتي حُرمت من صباها فلم تحرمها من شبابها أيضًا؟ ... لقد أذعنت لكل شيءٍ فرضتموه عليها يا محمد فلم يا حبيبي .. لم المكابرة بتدمير حياتها!! ابنتك لم تعد صغيرة أصبحت شابة، وعروس لا يجب أن تعاملها هكذا
ضحكَ بسخرية واستغلَ كلام والدته ضدها
-ألم تقولي هي طفلة بثوب امرأة؟؟ اذًا لنعاملها كأنها طفلة حتى تتأدب
نظرت له فاطمة ببوادر اشفاق ممزوج بحدة وقالت متجاهلة كلامه
-لا فائدة منك أبدًا ستظل هكذا إلى أن تندم.. هيّا أعطني المفتاح وإلا لن أكلمك مدى حياتي...
أردفَ محمد بذهول
-هل ستغضبين عليّ يا أمي من أجلها؟؟؟ هل أهون عليكِ لهذا الدرجة
صبغت ملامحها بالجمود قبل أن تقول وقلبها يُقطر ألمًا، رغم أنها لم تقصد ما فهمه
-أنا أفعل هذا لمصلحتكما معًا
ألمه قلبه بشدة، ودون أن يعي هتفَ بشراسة
-لن أعطيكِ المفتاح إلا بموافقة أبي
نظرت في عينيه نظرة ذات مغزى
-إذًا أنت لا يهمك رضاي؟
حادَ ببصره عنها والتفتَ بوجهه صامتًا يكز على أسنانه في إجابة واضحة للرفض، لتهز رأسها في اشفاق ثم رحلت من أمامه مُتمتمه له بالهداية
وقفَ هو بالممر ينظر للغرفة القابعة داخلها ابنته وقد قرر أنه سيربيها على التقريع لذي تناوله علقمًا من والدته للتو بسببها، هرول مسرعًا والشرار يتقد من مُقلتيه، جسده يرتج من فرط الغضب الجاري مجرى دمائه يكاد يبرم المقبض حتى يدخل غرفتها ويُحقق رجوليته بضربها مرة أخرى أو إلقاء بعض السباب واللعنات لكن صوت عالي في الأسفل لفتَ انتباهه و أبطأ حركته، جعله يتراجع عن الدخول وتحويل مساره إلى المصدر القادم من الأسفل.
وفي طريقه التقى ببدور التي خرجت هي الأخرى بدورها من غرفتها على إثر الصوت العالي، قطبَ حاجبيه وسألها بقلق
-ما الذي يحدث في الأسفل؟؟
هزت رأسها نفيًا بتشوش قائلة
-لا أعرف يا أبي لا أعرف، لقد كنت جالسة أنا وعالية في الغرفة وتفاجأنا بالصوت القادم من الأسفل
بقيت هي في الأعلى بينما نزلَ محمد مسرعًا وقد لمحَ غريبًا يقف في بهو المنزل ويزعق بالجميع، وفي طريقه قابلَ سالم الذي جاء من الخارج لتوه
-من أنت يا هذا وكيف تجرؤ على اقتحام منزل الشيخ كامل بهذا الشكل الهمجي بل تقف وتصرخ أيضًا؟؟
اسودت عينا تميم غضبًا وهدرَ أمامه بصوتٍ أعلى كأنه يستفزه
-أين ذلك المدعو فراس الهاشمي.. أين هو ذلك الجبان الخسيس
رفعَ سالم سبابته أمامه وأردفَ من بين أسنانه في لغة تحذير واضحة
-لا ترفع صوتك أمام الكبار يا هذا واخفض صوتك أن في منزل الشيخ كامل الهاشمي وعليك احترام ذاتك فيه إن كنت لا تحترمها في الخارج ثم كيف دخلت إلى هنا بهذه الهمجية؟؟
اندلعت شرارات الغضب بينهما، واستطاع الجميع حولهما الشعور بالذبذبة التي غيّمت الأجواء فجأة، فسالم ينظر لتميم بتعالي وحدة بالغة، أما الأخر فينظر بنفور وقسوة وحقد وليد أزمة شقيقته
-أنا أحترم المكان الذي يستحق الاحترام أما أنتم فليس لكم عندي إلا كلمتين أتيت لقولهما ثم سأذهب مرة أخرى، أما بالنسبة لكيف دخلت.. لا تتعب نفسك فحراسك مُكبلين في الخارج
قالها تميم باستفزاز كأنه يُثبت قدرته في أي وقت على اقتحام منزلهم بل والعبث بجوارهم!!، اقترب منه سالم في انشغاله بالإنجاز الذي حققه وأمسكَ بتلابيبه وهدرَ أمام وجهه بشراسة
-اسحب أتباعك وارحل من هنا ولا تأتي مرة أخرى بإرادتك .. ولا سأجعله غصبًا
ردَ تميم بتصميم يوازي قوة الواقف أمامه بعدما أنزلَ يده من على ملابسة بحدة واضحة
-افعل ما تشاء فانا لن أرحل من هنا إلا عندما ألقن أخيك الطفل درسًا
دارَ تميم حوله وهدرَ بصوتٍ جهوري مناديًا على تميم
-أين هو ابن والدته .. طالما هو ليس رجلاً كفيلاً بالوعد ما شأنه ببنات الناس؟
ضحكَ سالمَ بخشونة ضحكة بعيدة تمامًا عن المرح ثم قالَ بقسوة غير مباليًا بالرجل المتقد من النيران أمامه حزنًا وغيرة على شقيقته
-ولم لا تخبر أختك أولاً أنها لو لم تخرج من بيتها وحفظت كرامتها ما كان حدث كل هذا؟!... أختك هي المذنبة الأولى لأنها لم تخف على سمعتها وقبلت على نفسها أن تخرج مع شاب، ونحنُ لا نعرف إلى أي مدى قد تطور الأمر
-اخرس!!
انتفضَ تميم في مكانه بعنف وقبضته كادت تحتك بفك سالم لولا محمد الذي حالَ بينهما هاتفًا باهتياج
-كفى كفى.... اذهب إلى بيتك يا بني ولا تأتي إلى هنا مرة أخرى، ليس ذنبنا ما حدث لأختك فالجميع هنا يعرف العادات فليس لدينا زواج من خارج القبيلة
ردَ تميم صارخًا
-لم لم تُخبر قريبك بهذا؟ قبل أن يُدنس قلب أختي
تشبعت نبرته علقمًا لكنه لم يُظهر ذلك، لم يود أن يكون فريسة ضعيفة بجبهة الأسود، ابتلعَ ريقه وهو يناظر سالم بنظراتٍ شرسة ثم هتفَ قائلاً
-سأعود مرة أخرى... ولكن سأكون منتصرًا وأنتما ستندمان أشد الندم على اخفائكما لهذا الطفل
قالها ثم تركهم وغادر دون أن يلتفت حتى... قلبه يحترق على شقيقته ولن يهدأ قبل أن يأخذ ثأرها مُضاعفًا
********
صامتة أغلب الوقت
واجمة لدرجة تجعلك تحسب وجهها جامدًا لم تزره أي تعابير من قبل!!
ولكن مع من تتحدث؟ وأمام من ستتفاعل؟ وهي محبوسة بين أربعة جدران تخنقها وتطبق على روحها بقيدٍ من شظايا الظلم القابع على أنفاسها يكاد يُهلكها..
حتى الشرفة التي كانت مخرجها الوحيد لاستنشاق الهواء أغلقها والدها بوضع أخشاب تمنعها من فتحها، يُكبلها من كل الجوانب حتى لا تجد مخرجًا فتموت مختنقة، تشعر أنها في مشفى؛ فالجدران ليست بيضاء لكنها كئيبة، لا وجود لرائحة الأدوية لكن رائحة الذُل تُخزيها، على الأقل في المشفى لكان سيتردد عليها الممرضات والأطباء، لكن هنا!!.. لا يتردد سوى الهواء الذي يُبقيها على قيد الحياة...
اكتشفت أنها لن تموت من قلة الحب؛ فقلبها يضخ فقط لأن يمتلك دمًا كافيًا وليس حبًا كما يقولون
بقاءها مع ذاتها أشعلَ داخلها الكثير من الأسئلة التي ما ان تصمت فترة حتى تعود وتنخر بقوة كسوسة تتجرع على الأحزان القاتمة، تعالى وجيب قلبها وهي تتذكر نظرات سلطان لها بينما هي تتعرض للضرب، استطاعت في تلك اللحظات البسيطة التي التقت عينيها بهيكله المهيب -كما كانت تعتقد- أنه لم يهتم، بل بقى صامتًا وعلى وجهه تعابير غامضة لم توحي بأي شيء
لكنها قرأتها، وحللتها ولن يهمها إن كان تحليلها صحيحًا أم لا، شعرت في تلك اللحظة التي تتذكر فيها أنها ما زالت أسيرته، حتى بأسوأ حالتها تُفكر به بل هي التي اجتذبته إلى عقلها ليرافقها في سجنها المفروض بإحكام
سمعت صوتًا في الخارج لضحكات عالية عرفتها على الفور كما تعرفت على صاحبتها، هذه الضحكات غرضها الشماتة ليس إلا، وكم كان التوقيت مناسبًا لضرب إحداهن الآن فهي تشعر بالغيظ الشديد مما هي فيه...
أرهفت السمع لصوت المفتاح الذي يتحرك باستمتاع شديد، ثم تبعَ ذلك طلة خنساء عليها وهي تحمل صينية طعام بيدٍ واحدة، كانت هذه دلالة أن الصينية صغيرة ولا تحمل فوقها إلا أشياءً قليلة وخفيفة ما الذي ستأكله؟؛ خبزًا وجُبن؟؟ .. الحية الرقطاء !!
أزاحت وجهها عنها وشمخت برأسها في رفضٍ واضح، وبنبـــرة آجشة أردفت بنفور
-أي ريحٍ أتت بك إلى هنا، كنت مرتاحة قبل أن تطلي بوجهك السمج هذا علىّ
أطلقت خنساء ضحكة عالية ألهبت أذن رابحة وجعلت الغيظ يتملك منها لكنها لم تظهر بل بقت بملامح ساكنة تُحدق في نقطة لا تجعل بدور و خنساء في مرمى بصرها بينما تسمع الأخيرة تقول
-ما به وجهي يا رابحة ... جميل يا عزيزتي وليس هناك ما أجمل منه .... والحق عليّ أنني فكرت بك وأحضرت الطعام، قلبي الطيب هذا لا يأتي لي سوى بالمصائب كنت تركتك جائعة حتى يوم الزفاف لتموتي أفضل ونرتاح جميعًا
حوّلت رابحة بصرها إليها ورسمت ابتسامة مستفزة على شفتيها تعرف كيف تستجلبها جيدًا، ثم تحدثت بنبـــرة ناعمة لا تتماشى مع قسوة الحروف
-وأنا من اعتقدت أنكِ جئتِ شامتة وأنتِ خائفة عليّ يا خنفساء حبيبة قلبي، لا تقلقي لن أموت إلا بعد أن أطمئن أنكِ تواريتِ تحت التراب وتُحاسبين على آثامك
ها قد بدأت رابحة إحدى جولاتها الكلامية
فإما أن تنتصر أو تنتصر ... لا مجالَ لفائزٍ أخر يحتل مكانها
شعرت خنساء في تلك اللحظة برغبة عارمة لضرب رابحة، الغيظ الذي يكتنفها في تلك اللحظة يؤهلها لأن تمسك رأسها وتضربها في الحائط عشر مرات ولن تكتفي قبل أن تخمش وجهها بأظافرها، وتصفعها بقوة ثم في النهاية تكتم فمها وأنفها لتمنعها من الهواء لتموت..
لم تنتبه لنفسها وهي تنظر تجاه رابحة بشــر دفين ينضح من عينيها، فاقت من شرودها على يد بدور التي كانت تحاول أخذ الصينية من يدها، لكنها مسكتها جيدًا وتقدمت من
طاولة صغيرة مقابلة للفراش ثم وضعت الصينية بشيءٍ من العنف والتفتت لرابحة بغتة بأعين ينضحَ بها الشر
-أولاَ لا تدعيني بهذا اللقب حتى لا أنتف لكِ شعرك ... وثانيًا سأجعلكِ تندمين يا رابحة على كل ما تفوهتِ به لا تقلقي، سأزفك لأخي أولاً وحينها سترين ما تفعله العمة لزوجة أخيها
لا تزال تلك الابتسامة المستفزة الخبيثة تتراقص على ثغرها ذو البقعة الحمراء إثر الدماء المتجلطة من صفعة أبيها، بدت كامرأة مجذوبة تسعى للانتقام وليس لديها ما تخسره
اشرأبت بعنقها نحو خنساء ذات الغضب المكتوم حتى وصلت لأذنها، ثم همست بنبــرة تُشبه فحيح الأفعى، تبث السم دون الشعور باللدغة
-هل علمتِ أن أخيكِ كان عندي البارحة؟؟.. لم يتحمل إهانتي في الأسفل فجاء يتوعد لأبي وجدي وسلطان، لم تريه ... يغار بشكلٍ غير طبيعي أقسمَ أنه سيأخذ حقي
لعقت شفتيها بلسانها وزينتهما بابتسامة جانبية، وأردفت مصطنعة التفكير
-هاااااه... يا إلهي من ناحية حماد وناحية أخرى سلطان أيهما سأختار؟
صمتت قليلاً وأعطت لنفسها فرصة الابتعاد عن خنساء المشدوهة مما سمعت، ثم أجابت بضحكة مرحة لم تكن في موضعها وهي تُصفق بيديها
-بالتأكيد سلطان
كزت خنساء على أسنانها بقوة، فهي الآن ترى أخيها لُعبة تُحركها رابحة كيفما تشاء وهو لا يشعر، بل يترك نفسه للخيوط التي تُضيق الخناق حول رقبته، ومن الناحية الأخرى تبدو واثقة من ارتباطها بسلطان، رغم زواجها الوشيك من أخيها... هي لا تفهم.. لا تفهم!
لكن الشيء الوحيد الذي يستفحل بضراوة داخلها هو الضيق والغيظ والبُغض تجاه رابحة
وأخيرًا انفجرَ بركان انفعالاتها الخامد بفعل سدادة الهدوء الظاهري، كانت لحظة فاصلة عندما أزاحت خنساء الطاولة بقوة ليتناثر ما عليها من قطعة -جبن وخبز متحجر- على الأرض واقتربت منها هادرة بعنف
-هل سيتزوجك سلطان ؟؟ هل تحلمين؟؟ لا إشارة واحدة توحي بذلك يا رابحة .. أفيقي عزيزتي هو لا يراكِ من الأساس بافي بالكاد يعرف وجهك، لو قابلكِ في مكان لن يتعرف عليكِ.. فوفري جهودك ستحتاجينها في أعمال المنزل تحت قدم والدتي
رمت أخر كلمتين في وجه رابحة ورفعت رأسها كالمنتصر في غزو، لكنها ما لبثت أن بهتت ملامحها حينما نطقت رابحة ويدها اليمنى تتخلل خصلات شعرها وتعيدها للخلف بحركة خيلاء واضحة كانت كفيلة بقلب كل الموازين
-مشكلتك يا خنفساء رغم أنكِ مُتعلمة عني قليلاً وأخذتِ شهادة الثانوية إلا أنكِ ضيقة الأفق، ومحدودة الفِكر... لم تدركِ أنني وسلطان مقدران لبعضنا، كالشجرة والغصن، الصحراء والرمال، الحب والكره، نحن مرتبطان بشكلٍ غريب أحيانًا نكون الكلمة ومعناها، وأحايين أخرى يكون التضاد نقطة التقائنا ... فلا تحاولي، و نصيحة مني أنا لا تحاولي لن تستطيعي اجتذابه حتى لو كان عقله معكِ فقلبه سيظل مع رابحة... رابحة فقط
لم تصمت عند هذا الحد، بل أرادت أن تضرب الكرة الأخيرة في مرمى فريقها الخصم مُحرزة أخر هدف لتضمن الفوز في مباراة لم تكن ودية على الإطلاق، بل كانت شرسة حكمها غائب
-سلطان جاء لغرفتي العديد من المرات كما فعلت أنا بالمثل، وذهب لغرفته.. وتقابلنا في الحديقة في ساعة تهور كادت تكشفنا... كل هذا ولازلتِ تنكرين علاقتي بسلطان؟؟
رفعت حاجبيها في عدم تصديق، بالتأكيد هي مجنونة تعيش في عالم الأحلام الذي صنعته، بل هي غارقة حد الثمالة وسيسعدها للغاية أن تراها تموت من عُمق ما تصبو إليه
هتفت خنساء باشمئزاز تلون به وجهها بأكمله
-لن تأخذي كل شيءٍ يا رابحة ... ثقتك هذه ستكون سببًا في انتهائك يومًا ما .. ولا تقلقي سأكون أول حاقدة عليك
بينما رابحة ردت ضاحكة دون مرح
-الحاسد والحاقد في النار... لذا اشمتي بعيدًا عني يا حبيبة أمك لستُ في مزاجٍ يخولني لسماع تراهاتك، فأنا بالكاد أجهز نفسي لعرسي أنا وسلطان
تمتمت خنساء بينما تُلملم ما تبقى لها من كرامه وترحل
-مخبولة
أطلقت رابحة زفيرًا يختنق داخل رئتيها وردت عليها بضيق بعدما رحلت
-خنفساء ضيقة الأفق
وفي الخارج كانت خنساء تسير مسرعة غير منتبهة لفاطمة التي أوقفتها وسألتها عن مكانها لتُجيب بأدب رغم كرهها لها
-لقد أخبرني سيد محمد أن أضع لها الطعام؟
علمت فاطمة أنها تكذب فلسانها قد جف من التوسل لابنها حتى يعطيها المفتاح، إذًا من أين أت به؟!!... بالتأكيد ثريا لأن زوجها يمتلك نسخة من المفاتيح كحال الرجال الموجودين إذا ما ضاع مفتاح يكون له بديل
رفعت فاطمة حاجبيها وعدلت من طرف حجابها على كتفيها ورأسها ثم مدت يدها لخنساء دون أن تنبس ببنت شفه جاعلة الأخرى تهتف بتساؤل أحمق
-ماذا؟
نطقت فاطمة بجمود
-أعطني المفتاح
ابتلعت خنساء ريقها في توجس ثم خبأتها في قبضتها لتقول بتلعثم
-عمي محمد أخبرني ألا أعطيه لأحد وأسلمه له بنفسه
قرّبت فاطمة وجهها منها وهمست بصوتٍ خطير
-لو لم تعطيني مفتاح غرفة حفيدتي سأخبر والدك أنكِ لا تأتي لهنا حتى تساعدي خالتك بل لتتأمري معها حتى توقعي ابنها!!...
رأت شحوب وجهها فعلمت أنها أصابت الهدف جيدًا، وبعصبية كررت طلبها مرة أخرى وهي تمد يدها
-أعطني المفتاح الآن!!
مدت لها خنساء يدها بالمفتاح ثم انطلقت سريعًا لتغيب عن أنظارها في ثوانٍ معدودة مما جعل فاطمة تبتسم بمكر وهي تتوجه نحو غرفة حفيدتها، تُثني على نفسها المُخادعة الهرمة، فهي لم تكن لتقول هذا لوالد خنساء... ليست هي من تتصرف بتلك الطريقة الطفولية، لكنها ستحاول لفت نظره في القريب العاجل إذا تم ما تُفكر به وتخطط له!
وبالداخل
سمعت صوت المفتاح مرة أخرى فاستعدت جيدًا وهي تقف تشمر عن ساعديها، فتلك المرة ستضربها ضربًا مبرحًا حتى لا تأتي لغرفتها مرة أخرى
-جئت لقضاكِ يا خنفساء الـ...
قطعت كلامها شاهقةً بلهفة وهي ترتمي بين ذراعي جدتها هاتفة بسعادة
-جدتي... اشتقتِ إليكِ يا فاطمة
*********
لا يكمن الشر والحقد في قلبٍ إلا وكان الحزن ثالثهما...
-فراس!!
نطقت خنساء وهي ترى فراس قادمًا من الخارج وعلى وجهه علامات التجهم، بما أن مزاجها مُعكر ستُفسد مزاج الأخرين
حصلت على انتباهه فتشدقت بلؤم
-هل علمت ما حدثَ اليوم؟.. لقد جاء هذا الشاب أخ الفتاة التي تريد الزواج منها
-ماذا؟؟
أردفَ بصدمة بالغة لتقول له بينما تلوى شدقها بشفقة ظاهرية واستطردت -نعم ... وقالَ سالم كلامًا في حقها يا إلهي.. انا فتاة لا أرضاها على نفسي
تجعدت قسمات وجهه وهتفَ مُنهكَ الأعصاب
-ما الذي حدث اخبريني يا خنساء ولا تدعيني ألتقط الحروف منكِ
حدقت فيه بخبث دفين ثم سردت عليه ما حدثَ في غيابه، ليشعر بالسخونة تندلع في أوردته وشرايينه مجرى الدم
وبداخل المطبخ
تلفتت يمينًا ويسارًا قبل أن تقترب من إحدى الخادمات وتسألها بلامُبالاة ظاهرية حتت لا تُفتضح
-هل جاء عُدي وسلطان من الخارج
-لا يا خالة ثريا لم يأتيا
هزت رأسها في صمت ثم تناولت الكوب الذي حضرته قبلاً وتوجهت نحو غرفة ابنها وزوجته!!
كلما اقتربت من الغرفة كانت تعاود التلفُت وتستحضر عينيها بجميع الاتجاهات، خشية أن يأتي أحد ويراها وهي تدخل الغرفة أو يراها برفقة نهاد، وقفت أمام الباب وطرقته ليأتيها صوت نهاد بالسؤال عمن بالخارج لتهتف بنزق
-إنها أنا ثريا .. حماتك افتحي الباب
وبعد دقيقة قضتها نهاد في جلب مئزرها ولفه حول جسدها جيدًا، وبين الارتباك والتشتت في الاستجابة لطلب أم زوجها وفتح الباب أم تنتظر لتخبر عدي أولاً!!، لكنها امتهنت القرار سريعًا ونهرت نفسها على ضعفها وتفكيرها في عدي، فهي لن تُدخله في أي شيء قد يحدث بينها وبين والدته.. فالجولة لن تكون في صالحها هكذا تعرف.. أو هكذا ظنت
فتحت الباب بأصابع مرتعشة رغم محاولتها أن تبدو ثابتة، وهي تغتصب ابتسامة على شفتيها وتدعو ثريا للدخول
-كل هذا حتى تفتحين الباب؟ ماذا كنتِ تفعلين كل هذا الوقت
كانت تعلم أن المقابلة لن تكون سلسة لذا استجلبت بعضًا من البرود ليكون درعها الواقي بعضًا من الوقت
-لا شيء يا خالة كنت أضع مئزري فأنتِ تعلمين أنا أجلس في الغرفة براحة قليلاً
رمقتها ثريا بامتعاض ثم تمتمت بنزق وهي تلوي شدقها
-عجبًا فتيات أخر زمن، صرن يتبجحن هكذا أمام الكبار
-عفوًا
نطقت نهاد رافعة حاجبها الأيمن وكل كلمة تصل لأذنها تجعلها تبني حاجزًا داخليًا بينها وبين تلك المرأة
-لم أقل شيئًا.. ولم أتِ للحديث جئت لهذا
تشدقت ثريا بينما تمد لها الكوب والذي يحتوي على سائل مائل للصفار، يذوب داخله بعض الأشياء تُشبه الغبار في تكوينها ورائحته مثل الزنجبيل إذا لم يكن هو
سألت نهاد باستنكار وهي تستنشقه
-ما هذا؟؟
دفعت ثريا الكوب نحو فمها بالإجبار وهي تقول بشرٍ انعكسَ على ملامح وجهها ونبرتها
-هذا مشروب الزنجبيل والقرفة مخلوط ببعض المكونات الأخرى التي لا فائدة من معرفتها، ستساعدك على خسران الوزن
كانت نهاد تتجرع المشروب الحارق مُجبرة ويد ثريا تدفع بالكوب على فمها، لكن عند أخر كلمة، ضربها الإدراك لاذعًا ليجعلها تبصق ما تشرب وتُبعد يد ثريا بالكوب حتى وقعَ وتناثرت باقي محتوياته لتمسحه بقرف واضح بينما تصرخ بوجهها
-ماذا تريدين مني؟؟ اتركيني بحالي أنا وزوجي لنهنأ قليلاً، أنتِ لا تعرفي أي فترة تجاوزناها للتو!!... أرجوكِ ابتعدي عني ولا تتدخلي بوزني أو بجسدي لأنه يعجبني أنا وعُدي ... أنا أحبه فلا تقفي بيننا
كانت الدموع في ماراثون على وجنتيها، تتسابق واحدةً تلو الأخرى كما لو أنه سباق الأخرة ومن لا يلحق لا يدخل الجنة، كانت متألمة تشعر برغبة عارمة في قتل نفسها، إحساس أنها قليلة أمام نفسها وأمام الناس إحساسٌ بشع، في تلك اللحظة تمنت لو أنها ماتت مع والدتها واندثرَ اسمها، فلم تكن لتعاني مع والدها ولم تتعرف على عُدي وتذوق مرارة الشعور على يد والدته
تبًا الحياة ليست عادلة بتاتًا... لقد استنفزتها كليًا وهي لم تعد بقادرة على المواجهة... قوتها خمدت
أمسكتها ثريا من ذراعها وهزتها بقوة قائلة بقسوة
-تحبينه؟ وهل عندما يأتي ويراكِ بهذا الشكل ألن يتحسر على حاله؟ ألن يكتم في نفسه حتى لا يجرح!! .. أنتِ أنانية لا تفكرين سوى بنفسك
نطقت نهاد بقهر انبجسَ من حدقتيها، الموضوعتين أرضًا
-أنا لست أنانية نحن نحب بعضنا وهو يتقبلني هكذا
ألقت ذراعها بعيدًا عن قبضتها المُحكمة، ثم قالت بشفقة ما لبثت أن تحولت لإصرارٍ صارم
-قلب أمه لا يريد جرحك وتذكيرك بما يجب عليكِ فعله،أنا لم أتِ لهنا إلا لمصلحة ابني وحقه عليك أن يأتي ويراكي في ابهى صورة والا لا تلومي سوى نفسك
جحظت عينا نهاد بشدة، تشعر بالبرودة ونخزات من شظايا حارقة في نفس الوقت، لا تعرف مصدرهما ولا لأيهما تستجيب، صرخت بقهر وقد فاض بها الكيل، لم تعد قادرة على تحمل المزيد من تلك القسوة
-أولست في أبهى صورة؟ ماذا تعرفين عن حياتنا حتى تتحدثي بهذا الشكل!!.. ما الذي أعطاكِ الحق في الحكم؟!! من ..
You are reading the story above: TeenFic.Net