12||لقد بدات التاقلم.

Background color
Font
Font size
Line height

فِ المساء.

بجانب حمام السباحة، حيث لا أحد سواها…

جلست ماريا على حافته، قدماها تلامسان سطح الماء البارد، وذراعاها ملتفّتان حول جسدها وكأنها تحاول احتضان نفسها وسط هذا الفراغ القاسي.

لم تكن تعلم متى بدأ الدموع في النزول، لكنها لم تحاول إيقافها. كانت عيناها شاخصتين أمامها، تحدقان في انعكاس القمر على سطح الماء، لكن عقلها كان غارقًا في أماكن أخرى… في ذكريات تؤلمها أكثر مما تحتمل.

والدها ووالدتها… لم يعد لهما وجود. لم يعد هناك أحد في هذا العالم يحتضنها بحب حقيقي دون شروط، دون قيود، دون خوف من المصالح أو القوة أو العداءات. كانت دائمًا أميرتهم الصغيرة، الفتاة التي لا تعرف عن القسوة شيئًا، لكن القدر قرر أن يُلقي بها وسط عالم لا يرحم.

شهقت بصوت مخنوق، ودفنت وجهها بين يديها، تشعر بثقل الأيام التي مرت عليها… بساعات الوحدة، بليالي البكاء الصامتة، وبكل لحظة قضتها تحاول التعايش مع واقعها الجديد.

ثم… تذكرت.

تذكرت كيف رأته مع تلك الفتاة، كيف وقف أمامها ببرود وكأنه لا شيء يهمه، كيف نظر إليها وكأنها مجرد شخص عابر في حياته. خليل… الرجل الذي غير حياتها بالكامل، الذي أخذها من عالمها إلى مكان لا تنتمي إليه، ثم تركها لتواجه كل شيء وحدها.

كانت تظن أنه مختلف… لكنه لم يكن كذلك.
زفرت نفسًا مرتجفًا، ثم نظرت إلى الماء مجددًا، وكأنها تحاول أن تمسح صورتها المنعكسة… أن تمسح كل شيء وتشعر للحظة واحدة بأنها لم تأتِ إلى هنا أبدًا، بأنها لا تزال تلك الفتاة التي كانت تجلس بين والديها، تسمع ضحكاتهما، وتحلم بغدٍ يحمل لها السعادة.

لكن الحقيقة كانت أقسى من أن تُمحى.

غرقت ماريا أكثر في أفكارها، وكأنها كانت تهبط إلى أعماق لا نهاية لها، حيث الألم لا حدود له. كانت الرياح الباردة تداعب خصلاتها التي انسدلت على وجهها، لكنها لم تكترث. كانت الدموع الساخنة تنساب بلا توقف، تبلل وجنتيها بينما صدرها يعلو ويهبط بأنفاس مضطربة.

تذكرت كيف كانت تجلس بجانب والدها في الحديقة، تحكي له عن أحلامها وأمنياتها، وكيف كان يضحك ويقول: "العالم كبير يا ماريا، لكن قلبك أكبر. فقط حافظي عليه ولا تسمحي لحد يخليكي تشكي في قوتك."

لكن ماذا تبقى لها الآن؟ قلبها كان محطمًا، ممزقًا بين الحزن والخيانة والوحدة… حتى القوة التي تحدث عنها والدها لم تعد تشعر بها.

حركت قدميها في الماء بعشوائية، ثم أغمضت عينيها للحظة، تحاول أن تحبس أنفاسها وكأنها تريد إيقاف الزمن، أن تجعل هذه اللحظة تختفي معها كل الذكريات المؤلمة. لكنها عادت لتفتح عينيها بحدة عندما سمعت صوت خطوات تقترب.

لم تكن بحاجة إلى النظر خلفها لتعرف من هو.

خليل.

كان وقوفه هناك وحده كفيلًا بأن يثير كل المشاعر المختلطة بداخلها. هل جاء ليسخر منها مرة أخرى؟ أم ليبرر؟ أم أنه فقط جاء لأنه شعر ببعض الشفقة؟

لكنها لم تكن بحاجة إلى أي شيء منه الآن.

مسحت دموعها سريعًا، دون أن تدير رأسها نحوه، ثم قالت بصوت متحشرج لكنه ثابت:
"إن كنتَ قد أتيتَ لتلقي محاضرة أخرى عن كيف يجب أن أكون قوية وألا أبكي، فلا داعي. ارحل خليل."

وقف صامتًا، لم يجبها، لكنها شعرت بنظراته تحرق ظهرها.

"ماريا…" نطق اسمها أخيرًا، لكن صوته كان منخفضًا، وكأن الحروف كانت تتعثر بداخله قبل أن تخرج.

شعرت بشيء بداخلها ينكسر أكثر، لكنها لم تلتفت. بل ازدادت تصلبًا وهي تقول:
"لا أريد سماع أي شيء منك."

ظلت عيناها على الماء أمامها، بينما الهواء البارد كان يلف جسدها… لكن ما كان يبردها حقًا، هو الجمود الذي بدأ يتسلل إلى قلبها.

وقف خليل خلفها، يحدق في ظهرها، وكأن نظراته تستطيع أن تخترق ذلك الجدار الذي رفعته بينهما. كان يعلم أنها تحاول التظاهر بالقوة، لكنها كانت مجرد قناع هش، وأي كلمة خاطئة منه قد تجعله يتحطم تمامًا.

تنفس ببطء، ثم قال بصوت منخفض لكنه حاد:
"تظنين أنكِ الوحيدة التي تألمتِ؟"

لم تتحرك ماريا، لكن قبضتها على فستانها اشتدت، وعرف خليل أنها كانت تحاول السيطرة على نفسها.

"هل تعتقدين أنني لم أشعر بشيء عندما رأيت الدموع في عينيكِ؟ أنني لم أشعر بشيء عندما رأيتكِ تنكسرين؟"

ضحكت بسخرية، لكن صوتها كان مليئًا بالمرارة:
"حقًا؟" التفتت نحوه أخيرًا، وعيناها محمرتان من البكاء. "وهل كان ذلك الشعور موجودًا عندما كنتَ بين ذراعيها؟ هل تألمتَ وأنتَ تبتسم لها؟"

صمت خليل للحظة، عيناه السوداوان تراقبانها بدقة، قبل أن يقول بجمود:
"إذا كنتِ تظنين أنكِ جرحْتِني، فأنتِ محقة…

ضيقت عينيها، لم تفهم قصده، لكنه أكمل:
" ماريا رغم كل شيء، لا تزالين مسؤوليتي."

شعرت بقلبها ينبض بعنف، لكن ملامحها ظلت متصلبة وهي تسأله:
"مسؤوليَتك؟ وهل أنا شيء تمتلكه خليل؟"

اقترب منها ببطء، حتى لم يعد هناك سوى خطوة بينهما، ثم انحنى قليلًا ليهمس:

"بلعنة ما… نعم."

كانت كلماته كصفعة غير متوقعة، لكنها شعرت بشيء آخر تحتها، شيء لم تستطع تفسيره… وكأن قلبه اللعين لم يكن قادرًا على تركها، تمامًا كما لم يكن قلبها قادرًا على كرهه كما أرادت.

نظر خليل إلى ماريا نظرة غامضة، وكأن هناك حربًا دائرة في داخله، ثم تنهد قائلاً بصوت منخفض لكنه حاد:

"أتعرفين ما المضحك في الأمر؟ أنكِ تصرفتِ وكأنكِ صُدمتِ برؤيتي مع فتاة أخرى… وكأنكِ كنتِ تتوقعين مني أن أكون ملكًا لكِ وحدكِ."

اتسعت عيناها، وظهر الأذى بوضوح في نظرتها، لكنه أكمل بلا رحمة:

*"هل يزعجكِ وجود شخص آخر في حياتي، ماريا؟ هل يزعجكِ أنني قد أكون مع امرأة أخرى، ألم يكن هذا ما كنتِ تريدينه؟ أن أبقى بعيدًا، أن لا أقترب؟ أم أن الأمر ليس بهذه البساطة؟"

شعرت وكأن كلماته تسدد طعنات مباشرة إلى قلبها، فأرادت أن ترد، أن تنكر، أن تهاجمه، لكنها لم تستطع… لأنها في أعماقها عرفت أنه كان محقًا بطريقة ما.

اقترب خطوة أخرى، لتصبح المسافة بينهما شبه معدومة، وعيناه مثبتتان على عينيها مباشرة، قبل أن يهمس بصوت منخفض لكنه قاتل:

*"أخبريني، ماريا… لماذا يزعجكِ أنني قد أكون مع غيركِ؟"

لم ترد… بل لم تستطع. لأن الإجابة كانت أكثر رعبًا من السؤال نفسه.

ظل الصمت بينهما مشحونًا، لا يُسمع سوى صوت أنفاسهما المضطربة وانعكاس ضوء القمر على سطح المياه. عيناها تائهتان في عينيه، تحملان مزيجًا من الألم، الغضب، والشيء الذي كانت تحاول إنكاره بشدة… الغيرة.

لكنها لن تعترف، أبدًا.

بلعت ريقها، محاوِلة السيطرة على ارتجاف صوتها، قبل أن تهمس بمرارة:

"أنت حرّ، خليل… افعل ما يحلو لكَ."

كادت أن تستدير، أن تهرب من مواجهته، لكنه كان أسرع منها، أمسك بمعصمها، جذبها إليه قليلًا، ليجعلها تواجهه بالكامل، ثم قال بنبرة منخفضة لكنها تحمل خطورة واضحة:

"لا، ماريا. لا تهربي. اخبريني وأنتِ تنظرين في عينيّ، أخبريني أن وجودي مع امرأة أخرى لا يعني لكِ شيئًا… أخبريني أنكِ لم تشعري بشيء وأنتِ ترينني معها."

اتسعت عيناها قليلًا، وكأنها عالقة في فخّ نصبه لها بنفسه. فتحت شفتيها، تحاول أن تتحدث، أن تكذب، أن تنكر، لكنها لم تستطع.

رأى خليل ارتعاشة جفونها، التوتر الذي تسلل إلى ملامحها، فشعر بشيء يشبه النصر، لكنه كان نصرًا مشوبًا بالمرارة.

تنهد ببطء، ترك معصمها، وابتعد خطوة للخلف وهو يتمتم بصوت بالكاد سمعته:

"مهما فعلتي، فأنتِ مسؤوليتي، ماريا… وهذا القلب اللعين الذي أملكه، ليس قادرًا على ترككِ تبكين وحدكِ هكذا."

ثم استدار ورحل، تاركًا إياها تتساءل: أيهما أخطر عليها… قسوته أم اهتمامه؟

ظلت واقفة في مكانها، تحدّق في الفراغ الذي تركه خلفه، تشعر وكأن قلبها سقط في هاوية لا قرار لها. كيف له أن يقول ذلك ثم يرحل بكل بساطة؟ كيف له أن يكون هو السبب في كل هذا الألم، ثم يعود ليكون هو من يداويه؟

قبضت يديها بقوة، تحاول أن تتشبث بأي شيء يمنع دموعها من السقوط مجددًا. لكنها لم تستطع.

"مهما فعلتي، فأنتِ مسؤوليتي…"

ترددت كلماته في عقلها، تلتف حولها كأنها أغلال تقيّدها، تمنعها من الهروب، من الابتعاد. كأنها، رغم كل شيء، تظل عالقة به، بطريقة لا تستطيع فهمها أو كسرها.

لكنها لم تكن الوحيدة التي تشعر بتلك الفوضى.

على بعد أمتار قليلة، وقف خليل مستندًا إلى الحائط، أصابعه مشدودة على سيجارته التي احترقت بين يديه. عيناه السوداوان كانتا معتمتين، عاصفة من المشاعر تتلاطم داخله، لكنه لم يسمح لها بالظهور.

كان يعلم جيدًا أن وجودها في حياته لم يكن جزءًا من خططه. كان يعلم أن كل هذا… كل ما يشعر به، كل لحظة ضعف معها، ليست سوى لعنة أخرى أُلقيت عليه.

لكنه أيضًا كان يعلم يقينًا شيئًا واحدًا…

أنه لا يستطيع أن يراها تتألم، ويبقى صامتًا.



في صباح يوم جديد، كان يوم إجازة لماريا، لذلك استيقظت في الساعة الواحدة ظهرًا. نهضت بتكاسل، ثم دخلت الحمام لتغسل وجهها وتبدل ثيابها. بعد ذلك، عادت إلى سريرها وجلست عليه مجددًا، لا تزال تشعر بالخمول، بينما عقلها يعيد استرجاع أحداث الليلة الماضية.

كانت تتساءل إن كانت قد أخطأت في تصرفها، لكنها لم تستطع تحمّل رؤية خليل مع امرأة أخرى، حتى لو لم يكن لها أي حق في ذلك. لم تفهم مشاعرها المتناقضة، لكنها كانت تؤلمها بشدة.

قطع أفكارها صوت إشعار من هاتفها. التقطته بتلقائية، لتتفاجأ بطلب صداقة من ريكاردو مارتن على أحد مواقع التواصل الاجتماعي.

ظلت ماريا تحملق في الشاشة للحظات، تفكر فيما إذا كان عليها تجاهل الطلب أم قبوله. في النهاية، ضغطت على قبول بسرعة قبل أن تغيّر رأيها، ثم رمت الهاتف بجانبها وكأنها لم تفعل شيئًا مهمًا.

لم تمضِ سوى دقائق حتى ظهر إشعار آخر—رسالة منه. شعرت بتوتر غريب، لكنها فتحت المحادثة بفضول.

ريكاردو: لم أتوقع أنكِ ستقبلين الطلب بهذه السرعة.

رفعت حاجبها بسخرية، أي نوع من المقدمات هذه؟ ترددت قبل أن تكتب ردًا مقتضبًا:

ماريا: وهل كنت تنتظر أن أرفضه؟

مرت لحظات قبل أن يرد:

ريكاردو: صراحة؟ نعم، بدا لي أنكِ من النوع الذي لا يُجامل بسهولة.

ابتسمت ماريا بخفة رغم نفسها. صحيح، لم تكن من النوع الذي يُجامل، لكنها أيضًا لم تكن من النوع الذي يتجاهل الفضول.

ماريا: ربما، لكنك أثرت فضولي. لمَ أرسلت طلب الصداقة؟

توقعت أن يتردد أو يختلق عذرًا، لكنه فاجأها برد مباشر:

ريكاردو: أردت أن أعرف المزيد عن الطالبة الغامضة التي يحيطها الحراس، والتي ترفض المصافحة كما لو أنها أميرة.

ضحكت ماريا هذه المرة، رغم أنها حاولت كتمها. بدا واثقًا جدًا بنفسه، وهذا جعلها تتساءل إن كان مجرد شاب مغرور أم أن هناك جانبًا آخر له.

ماريا: أميرة؟ لم يسبق أن وصفني أحد بهذا اللقب من قبل.

ريكاردو: ربما لأنهم لم يلاحظوا ذلك، لكنني أمتلك عينًا حادة للأمور.

رفرفت ماريا بعينيها، متعجبة من أسلوبه المباشر، لكنها لم تستطع إنكار أن الحديث معه لم يكن سيئًا كما توقعت.

ماريا: حسنًا، وما الذي تنوي فعله بعد أن قبلتُ طلبك؟

ريكاردو: اكتشاف إن كنتِ مثيرة للاهتمام كما أظن، أم مجرد فتاة عادية تحيط نفسها بالغموض.

رفعت ماريا حاجبيها، تشعر وكأنه تحدٍ مبطن. لا تعرف لماذا، لكنها شعرت برغبة غريبة في معرفة إلى أين سيأخذها هذا الحوار.

ماريا: حسنًا، سنرى.

وأغلقت الهاتف، هذه المرة بابتسامة خفيفة لم تنتبه أنها قد ارتسمت على شفتيها.
ثم نزلت إلى الطابق السفلي بعدما شعرت بالجوع، متوجهة إلى المطبخ لتحضير شيء تأكله. وبينما كانت تعبر الصالة، لاحظت مي وسلمى جالستين معًا، تتبادلان الحديث بارتياح. ألقت عليهما السلام سريعًا دون أن تتوقف، فأجابتاها بالمثل، قبل أن تتابع طريقها إلى المطبخ.

بمجرد دخولها، فتحت الثلاجة، بحثت عن شيء سريع وسهل التحضير، ثم قررت تشغيل بعض الموسيقى على هاتفها. سرعان ما علت ألحان أغنية حماسية في المكان، فبدأت تدندن معها، ثم تحركت بانسجام مع الإيقاع بينما كانت تعد الطعام. لم تستطع مقاومة الرغبة في الرقص قليلاً، فاستسلمت للحركة، تدور بخفة على أطراف قدميها، مستمتعة بلحظتها الخاصة.
بينما كانت ماريا مستغرقة في تحضير الطعام والرقص على أنغام الموسيقى، لم تكن تدرك أن مي وسلمى قد توقفتا عن الحديث للحظات عندما لاحظتا صوت الأغنية القادم من المطبخ. تبادلت مي نظرة سريعة مع سلمى قبل أن تبتسم بمكر وتقول بصوت مرتفع:

"واضح إن حد عنده حفلة خاصة جوه!"

تجمدت ماريا في مكانها للحظة، ثم التفتت نحوهما بوجه متورد من الإحراج، لكنها سرعان ما تمالكت نفسها وردّت بنبرة مرحة:

"وأنتوا مالكم! سيبوني أعيش حياتي بقا."

ضحكت سلمى وهي تهز رأسها: "كنتِ تقدري تطلبي من حد يجهز لك الأكل بدل ما تعملي حفلة في المطبخ!"

لكن ماريا رفعت حاجبها بتحدٍ وقالت: "أنا بعرف أعتمد على نفسي، وبعدين، الطبخ ده مزاج!"

مي، التي كانت تستمتع بالموقف، وقفت واتجهت نحو المطبخ قائلة: "طب بما إن الطبخ مزاج، إيه رأيكِ تعمليلنا حاجة كمان؟ أنا بدأت أجوع!"

ماريا تنهدت بتمثيل الضيق، لكنها لم تستطع منع نفسها من الابتسام: "خلاص، اقعدي وأنا أشوف هعملكوا إيه."

وبينما كانت ماريا تعود إلى تحضير الطعام، اقتربت منها مي وهمست بمكر: "بس متنسيش ترقصي تاني، المشهد كان ممتع!"

ماريا رمت عليها منشفة المطبخ ضاحكة، بينما تعالت ضحكات مي وسلمى في الخلفية، ليظل الجو مليئًا بالمرح والدفء.

بدأت ماريا في تجهيز الغداء وهي تشعر بحماس غريب، ربما بسبب الجو الدافئ الذي صنعته مع مي وسلمى. قررت أن تطبخ لهم وجبة مصرية أصيلة، فاختارت أن تعد ملوخية بالأرز والفراخ المشوية، بجانب طبق سلطة بلدي.

بينما كانت تقطع الثوم، قالت مي وهي تراقبها من بعيد: "بصراحة، أنا مش متخيلة خليل بيأكل الأكل المصري ده، أكيد متعود على الباستا والبيتزا بس."

ضحكت ماريا وردت بثقة: "أنا متأكدة إنه لو داق اكلي، هيغير رأيه تمامًا!"

سلمى ابتسمت قائلة: "هنشوف، بس خلي بالك، لو الأكل طلع حلو، خليل ممكن يخليكي تطبخيله كل يوم!"

ماريا رفعت حاجبها بمكر وقالت: "فاضيه انا بق لاستاذ خليل ولا خدمته الجديده"

تعالت ضحكات الفتيات، ثم عادت ماريا للطبخ وهي تشغل أغنية مصرية قديمة بصوت هادئ. بعد نصف ساعة، كان الطعام جاهزًا، والرائحة الشهية ملأت المكان.
عندما انتهت ماريا من تجهيز الطعام، طلبت الخادمة من الجميع الحضور إلى طاولة الغداء. مي وسلمى كانتا أول من جلس، في حين دخل خليل بعدهما بلحظات، بخطوات هادئة وبرود واضح كعادته.

جلس في مكانه دون أن ينطق بكلمة، لكنه لاحظ اختلاف الأطباق الموضوعة أمامه. نظر إلى الطعام أمامه بتمعن، حاجبيه منعقدان قليلًا قبل أن يسأل بصوت هادئ لكن بنبرة متحفظة: "إيه ده؟"

مي، التي كانت تضع قطعة من الدجاج في طبقها، رفعت رأسها وقالت بحماس: "ده أكل مصري، ماريا عملته."

عند سماع اسمها، رفعت ماريا عينيها للحظة لتنظر إلى خليل، لكنه كان ينظر نحو الطعام. لم تعلق، فقط عادت للتركيز على طبقها.

أما خليل، فظل ينظر للطعام لثوانٍ قبل أن يتردد، ثم أخذ شوكته وبدأ في تناول لقمة صغيرة. مضغ الطعام بهدوء، ملامحه لم تعبر عن شيء واضح، لكنه أكمل الأكل دون أن يتوقف.

سلمى، التي كانت تراقبه، ابتسمت وسألته: "ها، إيه رأيك؟ عجبك؟"

توقف قليلًا، ثم رفع عينيه لينظر إلى ماريا، التي بدت وكأنها غير مهتمة برأيه من الأساس. أعاد نظره إلى طبق الطعام وقال بجفاف: "مش بطال."

مي ضحكت وقالت: "مش بطال إيه يا عم! ده الأكل طعمه يجنن!"

أما ماريا، فاكتفت بابتسامة خفيفة وهي تقطع قطعة من الخبز دون أن تنطق بأي كلمة، غير عابئة بتعليق خليل المختصر، رغم أنها لاحظت أنه لم يترك طبقه إلا بعد أن أنهى جزءًا كبيرًا منه.

بعد دقائق من تناول الطعام في صمت، كانت مي هي الوحيدة التي تتحدث بحماس عن الأكلات المصرية وكيف أن ماريا طبختها بإتقان. أما ماريا، فكانت تكتفي بالاستماع بصمت، بينما سلمى تبتسم بين الحين والآخر.

خليل لم يكن يتحدث، لكنه كان يرفع عينيه من حين لآخر ليراقب ماريا خلسة. رغم بروده المعتاد، إلا أنه لم يستطع إنكار أن الطعام كان لذيذًا. لم يعتد على مثل هذه النكهات، لكنه وجد نفسه يتناول لقمة تلو الأخرى حتى كاد ينهي طبقه دون أن يدرك.

عندما لاحظت مي ذلك، ضحكت وقالت بمكر: "واضح إن الأكل عجبك يا خليل، مش بطال إيه؟ ده أنت خلّصت نص الطبق!"

نظر إليها خليل ببرود، ثم وضع الشوكة بهدوء وقال بلهجة ثابتة: "الأكل… كان مقبول."

رفعت ماريا حاجبيها بسخرية خفيفة، لكنها لم تعلق، بل اكتفت بإكمال طعامها.

سلمى، التي لاحظت هذا الجو المتوتر بين الاثنين، قررت تغيير الحديث قائلة: "ماريا، انتي ناوية تعمليلنا أكل مصري كل يوم بقى؟"

ضحكت مي وأضافت: "أيوة أيوة، بليز اعمليلنا كشري المرة الجاية!"

ماريا ابتسمت أخيرًا وقالت: "لو عايزينه بجد، ممكن أعمله."

مي صرخت بحماس: "يبقى خلاص، عندنا غدا بكرة!"

أما خليل، فاكتفى بالاستماع بصمت، قبل أن ينهض من مكانه فجأة،ثم غادر الطاولة دون أن يضيف أي كلمة أخرى، تاركًا ماريا تتنفس براحة، رغم أنها لم تستطع إنكار أنه كان يأكل بشهية واضحة، حتى لو لم يعترف بذلك.

بعد أن أنتهت قررت ان تأخذ لحظات من الهدوء. توجهت إلى المطبخ، أعدّت كوبًا من الشاي الساخن، ثم صعدت إلى غرفتها.

جلست على سريرها، وضعت الكوب على الطاولة بجانبها، والتقطت كتابًا كانت قد بدأت قراءته منذ أيام—رواية رعب أثارت فضولها. أغمست نفسها في الصفحات، تنقلت بين السطور المشحونة بالتشويق، حتى كادت أن تنسى كل ما حدث اليوم.

لكن فجأة، اهتز هاتفها بإشعار جديد. ألقت نظرة سريعة عليه، فتجمدت عيناها للحظة عندما رأت الاسم المرسل: ريكاردو مارتن.

ترددت قليلًا، قبل أن تأخذ نفسًا عميقًا، وتضغط على الإشعار لفتح المحادثة.

عندما فتحت المحادثة، وجدت رسالة قصيرة منه:

ريكاردو: "كيف كان يومك؟"

تأملت ماريا الرسالة لثوانٍ، تفكر في كيفية الرد. لم تكن تعرف الكثير عن ريكاردو، لكنه بدا ودودًا عندما تحدث معها في الجامعة أمس. وبعد لحظة من التردد، قررت أن ترد ببساطة:

ماريا: "كان جيدًا، وأنت؟"

لم تمضِ سوى ثوانٍ حتى جاءها رده:

ريكاردو: "لا بأس، يوم عادي نوعًا ما. لكنني لاحظت بالأمس أنكِ جديدة هنا، صحيح؟"

رفعت ماريا حاجبها قليلًا، لم تتفاجأ من ملاحظته، لكنها لم تتوقع أن يهتم بالأمر.

ماريا: "نعم، ما زلت أعتاد على المكان."

ريكاردو: "إذن، بما أنكِ لم تكتشفي المدينة بعد، ما رأيكِ في جولة صغيرة؟ أستطيع أن أريكِ بعض الأماكن المميزة هنا."

توقفت ماريا عن الكتابة للحظات، تفكر في عرضه. لم تكن تتوقع دعوة كهذه، لكنها لم تجد سببًا مقنعًا للرفض أيضًا. وبعد ثوانٍ، كتبت:

ماريا: "فكرة جيدة، متى؟"

بعد لحظات، ظهر إشعار بردٍّ جديد منه:

ريكاردو: "رائع! هل يناسبكِ غدًا بعد الظهيرة؟ أعدكِ بجولة ممتعة."

تأملت ماريا الشاشة، تفكر في الأمر. لم يكن لديها خطط معينة، ولم تجد سببًا للرفض، لذا كتبت:

ماريا: "حسنًا، غدًا بعد الظهيرة مناسب."

ريكاردو: "اتفقنا إذًا! سأرسل لكِ التفاصيل صباحًا، ليلة سعيدة ماريا."

ماريا: "ليلة سعيدة."

وضعت هاتفها جانبًا وأخذت رشفة من الشاي الذي بدأ يبرد، ثم استندت إلى وسادتها وهي تفكر فيما فعلته للتو. لم تكن معتادة على الخروج مع أشخاص جدد بسهولة، لكن شيئًا ما جعلها توافق دون تفكير طويل. ربما لأنها كانت بحاجة إلى كسر الروتين، أو ربما لأن ريكاردو بدا شخصًا ودودًا.

لكن وسط كل هذا، لم تستطع منع عقلها من التساؤل…
ماذا لو علم خليل بذلك؟

يتبع.
_________________________
الكاتبه/عابدة الله احمد.


You are reading the story above: TeenFic.Net