الفصل الأول
أبين ما في الانسان ضعفه, فمن شهد الضعف من نفسه نال الاستقامة مع الله تعالى ......الإمام الشافعي .
(منزل المرابط)
فتحت باب السيارة بتردد كما ترجلت منها ثم فردت قامتها ورفعت رأسها لتتأمل البيت الكبير لأهل والدها. إحساس غريب اكتنف قلبها، لكنها أجلت تحليله وهي ترنو رجلا كبيراً ينتظرها قرب الباب الداخلي، ذكرها بجدها الحنون الذي وافته المنية، فلمعت مقلتاها بحنين وخطت نحوه لتضمه تهمس له ببحة (جدي!) ضمها إلى صدره بحنو وزكرياء يراقبهما بحيرة ودهشة من الترحيب الدافئ الذي لم يكن حقاً في انتظاره منها بالرغم من أنها تحترمه للغاية، معترفاً لنفسه بأنها قدمت له الكثير مقابل القليل الذي منحها إياه لكن ما يحيره مدى التقارب الذي يلاحظه عليها مع والده (حمدا لله على سلامتك، كيف حالك الآن بنيتي؟)؛هزت رأسها وهي ترد عليه (أفضل حالا الحمد لله، شكرا لك.) ضم كتفيها وهو يقودها إلى المنزل، وزكريا ما يزال يرمق تقاربهما بحيرة، من يراهما لا يصدق بأنه أول لقاء بينهما. (لا أحد في البيت، استرخي.) أخبرها جدها ببسمة مشفقة، فتنفست طائعة الصعداء حين تساءل زكرياء بحيرة من أمر أبيه (أبي!) ابتسم له والده، يفسر له بنبرة بها بعض التسلية (أنا آسف بني لأنني أخفيت عنك الأمر لكنني لم أستطع تجاهل حفيدة لي، ليس من شيمي لذا كنت أزورها من حين لآخر، وكنت أستمتع بصحبة جدها رحمه الله، كان رجلاً مختلفاً.) أطرق زكريا برأسه خجلا من نظرات ابنته التي ومهما أخفت عنه مصابها، إلا أن نظراتها تصرخ بلهفة وعتاب... أين كنت يا أبي؟ (أين هي نعيمة؟) سأله زكريا، فرد عليه والده بوجوم (المستشفى.) هز رأسه ونظر إلى ابنته يخاطبها بلطف (استريحي في غرفتك، أبي سيأخذك إليها واستعدي، آل عيسى سيأتون مساء كي نعقد القران ويصحبوك إلى منزلهم.) أومأت له بخفة تتجاهل القشعريرة التي امتدت على طول جسدها، فاقترب منها يقبل رأسها مستطردا (سألحق بنعيمة الى المستشفى، لم أزر أختك اليوم بعد، السلام عليكم.) راقبت ابتعاده بسهو، جفلت منه على لمسة جدها يحثها على المشي (سأدلك على غرفتك.) ابتسمت بتهكم تفكر؛ غرفتها كيف وهي مكان مؤقت لساعات معدودة تجهز فيه نفسها؟! والأصح أنها لم تحظ بغرفة في بيت أبيها، ولن تفعل لأنها ستقاتل من أجل زواجها بكل ما تعلمته من أمها وجدها، ومن دراستها حتى إن كان الزواج قائما على المصالح، والزوج يبدي بروداً مقلقاً ورغبة بالفرار (لا تحزني لأن والدك غادر.) قالها جدها حين لاحظ سهوها، فردت عليه مبتسمة (لا جدي! لست حزينة، كيف حالها بالمناسبة؟) تبدل تعبير قسماته إلى قلق، وهو يفتح لها باب الغرفة (نقلوها إلى القسم النفسي بعدما يئسوا من استجابتها للعلاج.) قطبت طائعة وهي تلتفت إليه بأنظارها الفضولية (أنا لا أفهم سبب محاولتها للانتحار، الخبر وصل إلى بلدتنا.) أحسن إخفاء توتره وهو يجيبها بضيق (ولداي أفسدا أبناءهما دلالاً، وحين عجزا عن تحقيق رغباتهما الأنانية الأول سلك طريق الضلال، والأخرى سلكت طريق الجبناء.) لم تقتنع لكنها أومأت على أي حال، وهو يستطرد ببسمة حنونة (باستثناء عواطف، حفيدتي الرقيقة أتمنى أن تتعرفا إلى بعضكما مستقبلاً إن شاء الله.) ابتسمت له بحنو تتذكر سهام، وجدها يضيف بعدما ربت على كتفها (سأدعك لترتاحي قليلاً، وافق آل عيسى على عدم إقامة حفل عرس احتراما لموت جدك، كما أن الاحتفال لم يناسبهم بدورهم بسبب مرض الحاجة إيجة.) تنفست بعمق وهي تتأمل فخامة الغرفة حولها، طلاء كريمي بارد، وستائر من الحرير كشرشف السرير الكبير المغلفة أطرافه بجلد مزين بكريستال شفاف، والمناضد بتصميم مماثل. جلست وهي تتحسس نعومة الحرير على بشرتها، تفكر إن كانت أختها حظيت بكل هذا وأكثر، فما الذي جعلها تيأس إلى درجة إنهاء حياتها! هزت كتفيها استغراباً حين علا رنين هاتفها، فتطلعت إليه فابتسمت تبتسم بود (مرحبا سهووومتي! لا لم أنسك، وصلت لتوي واشتقت إليكم أيضا.)
***
(قرب بناية مصلحة الماء لمدينة الجبال.)
يتفقد طارق الجثة الفاقدة للحياة على أرضية غرفة من غرف مكاتب المصلحة بعينيه، وهو يصغي لحديث الطبيب الشرعي (فارق الحياة ما بين منتصف الليل والرابعة صباحاً، سبب الوفاة الغرق!) ضم طارق شفتيه متمعناً يستفسر منه (كيف ذلك؟ ثيابه جافة وغير مجعدة!) انحنى الطبيب الخمسيني بوجه بشوش لا يمت لعمله بصلة، مفسراً بامتعاض لا يتوافق مع ملامحه الباسمة دوماً، بخديه المائلين لحمرة طفيفة وسط شحوب باقي بشرته، مع شعر اختفى بعضه على مقدمة رأسه (انظر هنا!) أشار بيده المغلفة بقفاز طبي إلى خط بارز كطوق حول عنق الجثة، مستطرداً (بداية من هذه النقطة إلى نهاية رأسه تعرض للماء ولمدة كافية لتنهي حياته ...كيف؟... أحتاج لوقت كي أضع افتراضات لما حدث لكن سبب الوفاة بعد الفحص الأولي هو بالتأكيد الغرق.) هز رأسه بتفهم ثم وقف قائلا وهو يتأمل باقي فريق الشرطة العلمية، كل واحدٍ منهم يقوم بعمله في البحث وأخذ البصمات من مسرح الجريمة (أرجو منك الإسراع دكتور هادي، لا أريد لخبر قتله أن يصل للناس قبل أن نحصل على الأجوبة.) (فات الأوان على ذلك سيدي!) نطق مساعده عبد العالي وهو ينضم إليهم، مستطرداً بقلق (الخبر أذيع في البرنامج الصباحي، والذي أصبح كل أهل الجبال يصغون إليه.) اشتدت عضلات فكه ينطق بحنق من بين أسنانه (تلك ال..... الرزقي!) هز مساعده رأسه بجزع، والطبيب يتدخل باسماً بفكاهة (تلك الفتاة رائعة، أحاديثها شيقة وأحب طريقتها في تحليل الأمور، وكأنها محقق ماهر، و...) بتر كلماته المسترسلة حين لاحظ تحديق طارق الحاد به، فاستدرك بتوتر مضحك وهو يهز كتفيه قبل أن يستدير متهربا بتفحص الجثة (إنه عنفوان الشباب، يا ليت الشباب يعود يوما، س ...أعود لعملي!) زفر طارق مجددًا، فقال عبد العالي وهو يحك خلف عنقه بترقب (حممم!....إنها هنا.) استدار إليه طارق بدهشة، فأومأ له بحاجبين مقطبين. (أ تجرؤ حقاَ؟!) نطقها بعصبية، وهو ينطلق خارجا بغضب، فغمغم الطبيب بشفقة (الفتاة المسكينة!) ضحك عبد العالي ببلاهة أظهرت فمه الكبير بأسنانه الأكبر تنصع ببياض ملفت (براء الرزقي ....ومسكينة!؟ بل أنت المسكين يا دكتور هادي.) احتار الطبيب وهو يستقيم بقامته القصيرة، لا يظهر من ملابسه الرسمية المكونة من قميص وسروال قطني شيئا، يغطيهما الرداء الأبيض الكبير. استطرد الشاب الذي يفوقه بطول ملاحظ، والمتأنق بكنزة سوداء مع سروال من خامة الجينز (إنها عفريتة!)ثم صمت كأنه تذكر شيئا ما، وهو يلتفت خلفه خوفا قبل أن يقترب من الطبيب يردف بهمس وهو يضحك بقسمات وجهه الجبلية، حاجبين طويلين باللون الأسود المائل إلى حمرةٍ لا تظهر إلا في نور الشمس مع مقلتين حادتين مظلمتين، وأنف كبير كفمه (الفتاة تثير جنون حضرة الضابط، إنها قوية ولا تهاب أحداً، أنا لم أر شخصا لا يهاب رئيسي سواها، والمشكلة أنه لا يستطيع حتى لمسها، فالعفريتة ذكية، وتراوغه بالحيلة والقانون.) ارتفعت زاوية فم الطبيب قرب رأس الجثة بعدما عاد لينحني عليه، يجيبه بتسلية (ولماذا تلقبها بعفريتة؟) رد عليه عبد العالي وهو ينحني بدوره (لأنها ذكية وبهذا الطول..) جمع طرف سبابته وإبهامه، فضحك الطبيب يقول بمزاح وهو يرمق خلف ظهر عبد العالي (حضرة الضابط!) انتفض الشاب المسكين من مكانه فوقع على الأرض جوار الجثة فاستدرك الطبيب بعتاب مازح (هذا من أجل استهزائك بقصيري القامة.) قام بسرعة ينفض ثيابه بجزع، والطبيب مستغرق بالضحك وهو يضيف (لحسن حظك أن المساحة حول الضحية تم فحصها، لأنني ما كنت لأغطي عليك.) ما يزال يُنفض ملابسه بقرف، وهو يرد عليه بامتعاض (أرجوك يا دكتور هادي، لا مزاح في أمرين اثنين؛ حضرة الضابط، وشؤم القتل!) قام من مكانه يرد عليه باسما، وهو يزيل قفازيه (بالنسبة للضابط طارق، أنت محق! لكن بالنسبة للشؤم؟! أنا لا أؤمن بتلك الخرافات المتداولة هنا وعليك التحرر منها فهي مدخل واسع للشرك بالله، وصدقني أنا بالذات حين أؤكد لك...) تلكأ ليحمل حقيبته، وهو مغادر بعد أن منح الضحية نظرة أخرى ثم تابع (على أن الأجل بيد الله وحده، لا دخل لأي أمر مهما كان في ذلك، ولو كان القاتل صبر على قتيله لفاضت روح الأخير إلى خالقها في موعدها، إلى اللقاء يا عبد العالي.) نظر عبد العالي إلى الجثة، فاقشعر جلده رغم مقاومته لموروثات بالية، ثم همس وهو يفر مسرعاً (اللهم أحسن خواتمنا!)... أسرع إليها مزمجراً بخفوت؛ عديمة الحياء تتبعه كظله بل وتسبقه بخطوة أحيانا، يكاد يحترق غيظاً، ومتلهف لاكتشاف هوية من يرسل لها الأخبار بتلك السرعة. أصبحت أعماله على جهاز الراديو التّعِس كل يوم، وكأنها تتقصد ذلك لتضيق عليه الخناق وتقرفه! لمحها تنظر هنا وهناك وديل شعرها الحريري يقفز في الهواء برشاقة ملفتة، يجاورها ذاك اللزج شبيه الرجال الملاصق لها طوال الوقت (ماذا تفعلين هنا؟) هتف طارق بغضب يختلط بالغيظ على دوام لقائه بها، فجفلت دون أن تفقد الثباتَ الذي تدربت عليه حتى برعت به أمام هذا الجلف، تقول له بهدوء وهي ترمقه بضجر مفتعل (من فضلك أيها الضابط! هل ستسألني نفس السؤال كل مرة نتقابل فيها؟) زمجر باستنكار فتدخل يزيد بحماس يقول له وهو يبسط يده لمصافحته؛ "شاب في أوائل العشرين نحيف البنية متوسط الطول، يطمح للعمل في الإذاعة، فتقدم بطلبٍ للتدرب تحت إمرة من ذاع صيتها بعد شهرين من عملها، فبات لا يفارقها حتى دوامه في الجامعة استغنى عنه باستعارة المحاضرات وتسجيلات الحصص من زملائه" (حضرة الضابط، سعيد برؤيتك من جديد، ماهي ملابسات الجريمة؟) هَدِلَ '١' طارق يرمقه بعدم تصديق قبل أن يستدير إليها متجاهلاً يد الآخر المبسوطة نحوه (هل هذا الصبي غبي؟) ضم يزيد يده يقلب شفته السفلى بحزن طفولي بينما هي تحول بينهما، وتمد قامتها الصغيرة لتصل إلى نفس طوله دون يأس (اسمه يزيد وليس بصبي بل طالب جامعي طموح وسؤاله ما أحضرني هنا!) رفع حاجبه باستفزاز يرد عليها بتهكم (طالب جامعي، وهذا يعني صبي يلاحقك كالمتشبث بذيل جلباب أمه، ولا جواب عندي لسؤالك، هيا غادرا.) ضيقت مقلتيها فلمعت الزرقة الشفافة فيهما تضرب صحارى قلبه الجافة برعدٍ قوي تلاه وابل لا قبل له به، وكان ذلك أكثر ما يغضبه من نفسه وما يزال، ويغضبه منها لأنها السبب في تلك الحالات المستجدة عليه. تنفس بصعوبة ضاعفت من احمرار وجهه الغاضب والمُسْمَرْ بفعل تعرضه المستمر للشمس، فقالت له بمكر (لا بأس! سأطرح الموضوع للتحليل والنقاش إذن! وسأكتفي بتقديم رأي حسب ما توصلت إليه من معلومات.) ثم رفرفت برموشها ببراءةً سُميّت بها ولا تتصف بمعانيها الشيء اليسير، فبلع ريقه جرّاء ما تسلل إلى قعر صدره وعاث هناك فسادا بدغدغة لم يتقبلها إطلاقاً، ورفض حتى التفكير بها (أبعدي هذا الصبي عني، وأخبريني بما أدخلت أنفك الفضولي مجدداً؟) مطّت شفتيها بيأس من كلماته الخالية من أي حس للذوق، لكن الحماس من أجل عملها جعلها تستدير إلى يزيدٍ تقول له بلطف، وأذناها لا تغفلان عن صرير أسنان الآخر (يزيد من فضلك عد إلى السيارة وأكمل مراجعة الملف.) أومأ لها بطاعة وانصرف، فنطق طارق من بين فكيه بامتعاض (غِراء!) (أف!) زفرت بعبوس فتفاجأ من الأنفاس العطرة التي بلغت أنفه بالرغم من قصرها والمسافة الفاصلة بينهما، هل بات أنفه كنفسه حساساً إلى هذه الدرجة نحوها؟! (أنت تتصرف كطفل لم يتجاوز الخامسة من عمره!) لم يتخلص من تأثير نفحة النعناع في أنفاسها بعد، وهو يرمقها بجمود دون رد أو فعل قد يزهق به روحها في هذه اللحظة. (لا يهم!) قالتها بضجر ثم استطردت بجدية (أعرف بأنك والسيد إبراهيم آل عيسى تخططان لشيء ما بخصوص إصلاح جودة المياه في المنطقة، لكنكما فتحتما على نفسيكما باباً إلى جحيم أهل الفساد.) هز كتفيه منتفخ الأوداج بينما يجيبها ببرود (لا علاج دون دواء والحمى معروفة ترج البدن.) قطبت جبينها تحاول استدراجه بحرص فهو ذكي وماكر بجدارة (لقد تتبعت مسار الميزانيات وتواريخ صدورها، وتصب عند شخص واحد و...) اقترب منها يقاطعها بتهديد خافت لكن خطير بنبرته العنيفة ونظراته المظلمة (أحذرك من ذكر اسمه أو حتى الإشارة إليه، إياك يا براء! ليس هذه المرة ...لا تعاندي!) فتحت فمها دهشة تستغرب نطقه لاسمها ولأول مرة، ثم تنحنحت حين ابتسم ساخراً، تقول له بتلعثم لم يألفه منها (ح....حسنا، أنا أعرف من يكون، والجثة في الداخل خير برهان، لن أشير إلى أي شيء، حتى الجريمة ذكرتها صباحا كخبر منقول فقط.) عاد لعبوسه يراقبها بحذر، وهي تشير إليه بإصبع سبابتها بعد أن استجمعت زمام نفسها تهدده (سأظل صامتة بشرط أن تخبرني بكل جديد، وحصرياً كي يكون لي السبق الصحفي حين تقبضون عليه.) جعد أنفه يرد عليها بتهكم (هذا ما ينقصني، سنفورة تهددني أنا!) اختفى التهكم من صدره وحلت التسلية، وهي تقفز من جديد على أطراف قدميها عابسة بعصبية (من سنفورة هذه؟) (حقا!؟ لا تعرفين السنافر! صحفية فاشلة!) اتسعت بسمته الباردة وهي تهتف بانفعال (أعرف السنافر، تلك الرسوم المتحركة الزرقاء القصيرة!) أومأ بينما يضم شفتيه مستمتعاً باستفزازها بتحقيق هدفه، ثم أشار إلى هيئتها بالسروال الجينز والقميص الأزرق (تماما، رسومات زرقاء وقصيرة، وداعا يا سنفورة!) انصرف والبسمة المرحة تشمل وجهه بالكامل بينما هي تعود إلى السيارة تتنفس بعنف، فعقب يزيد بيأس (إنه حقاً إنسان مستفز!) حدقت به تنبهه (لا تتحدث عنه هكذا.) تجمد ذاهلا من دفاعها عنه، فتراجعت تستطرد وهي تشغل محرك السيارة (هو مصدر معلوماتنا، ولا يجب أن نفقده لأي سبب كان!) أومأ لها بسهو غير مقتنع بتفسيرها، فانطلقت بسيارتها تهمس لنفسها (هدف لصالحك يا حضرة الضابط! سأريك السنفور الزرقاء القصيرة ماذا تستطيع فعله!)
'١'هَدِلَ الرَّجُلُ : اِسْتَرْخَتْ شَفَتُهُ السُّفْلَى ، تَدَلَّتْ.
***
(المستشفى)
تقدم زكرياء بخطوات هادئة داخل غرفة ابنته في القسم النفسي من المستشفى حيث لمح زوجته جالسة قربها تقرأ من كتاب الله بصوت خافت، فتوقف لحظة يتأمل ابنته الساهمة عبر السراب بمقلتين تائهتين، لا تحرك ساكنا ولا تستجيب لأي علاج. رقّت نظراته بإشفاق وإحساس بالذنب نحوها، يبحث عن مكمن الخطأ القاتل الذي اقترفه في حقها؟! حين دللها! أم حين حاول إعادة تربيتها؟! أم هو انتقام لحق ابنته الأخرى المسلوب جوراً؟! زفر بقنوط، فتنبهت له زوجته التي وضعت الكتاب على المنضدة لتسرع إليه تهمس له بوجوم (كيف استطعت فعل ذلك يا زكرياء؟ بعد كل ما أخبرتك به.) أسدل جفنيه يأسا منها يرد عليها بنفس همسها وإن شع بالحدة (يا نعيمة افهمي! الاتفاق تم بين الرجال ولا رجعة فيه! وما كان لها أن تدخل بيت آل عيسى حتى لو تراجعتُ عن تزويج أختها لابنهم.) زمت شفتيها وضمت حاجبيها قائلة بانفعال (أريدك أن تعيد إلي ابنتي يا زكرياء! يا إلهي إنها كقطعة خشب شاحبة، لا تستجيب لأحد، أحذرك زكريا إن لم تُشفى قريبا سأفقد عقلي أيضا!) مسح على وجهه بمقت، قائلاً بنبرة ارتفعت رغما عنه (نعيمة ...طائعة ستتزوج إسماعيل هذه الليلة بإذن الله، فأغلقي هذه السيرة، وصباح سأبعثها لأفضل مصحة نفسية إن لم ينجح علاجها هنا.) تلجلجت تقول له بعبوس (إسماعيل من أفضل الأطباء هنا، لماذا لا يعالجها هو؟) تبرم بشفتيه امتعاضاً وتهكماً (وهل ترين هذا منطقي بعد ما أخبرتني به عن مشاعرها نحوه؟) تلهفت تفسر له (بالعكس، قد تتقبل منه ما ترفضه من غيره، أرجوك زكرياء لنجرب!) تنفس قانطا يجيبها باستسلام ومقت (سأرى ما أستطيع فعله.) ابتسمت بتوتر وهو يلتفت لينظر إلى صباح الساكنة مكانها لا تشعر بمن حولها ثم عاد إليها بنبرته الجدية (يجب أن نغادر كي نستعد لليلة.) هرولت لتجلس جوار ابنتها تضمها قائلة بحزن تتحجج به (أنا لن أفارق ابنتي خصوصا مع ما سيحصل الليلة!) تخصر بتعب يتأملهما ثم استسلم قائلاً قبل أن يغادر (حسنا اقضي الليلة برفقتها، وسأعود صباحا بإذن الله.)
***
(قسم الأمراض الباطنية)
تقف في آخر الرواق متنظرة حتى جفلت على ربتتين سريعتين أدركت صاحبتهما التي همست لها بمرح (على من تتلصصين؟) نفخت في وجهها ترد عليها بعتاب (ألا تخجلين من تصرفاتك؟) هزت كتفيها تلاعب بحاجبيها بمرح (لست من يتلصص على المسحور.) قطبت سماء تجيبها بعبوس (كفي عن مناداته بذلك اللقب، ثم أنا لا أتلصص على أحد، لديه زائرة، وأنتظر مغادرتها، فلقد اقترب موعد الدواء.) حركت فمها المضموم بمزاح متهكم، ثم قالت لها (ومن سيزوره يا حسرة؟ عبد العالي أخبرني بأن والدته وخالته قد حُكم عليهما بسنة سجناً نافذاً.) ردت عليها سماء بتفكير (إنها ابنة خالته، فتاة صغيرة أظنها في العشرين، أول مرة تقوم بزيارته.) ضحكت نوارة ببلاهة تشير إليها بسبابتها (كنت تتلصصين بالفعل!) عبست من جديد تزفر بضجر، فضمتها معتذرة (آسفة ...أنا أمازحك.) أومأت بخفة ثم عادت لمراقبة الباب، وصديقتها تسترسل بثرثرتها (أستغربها إن كانت من عائلته لماذا لم تزره من قبل؟ ولماذا لم يبحثوا عن دواء له؟ فما به لا يحتاج إلى كيماويات بل إلى رقية شرعية.) خرجت الفتاة فأسرعت سماء تدخل إلى الغرفة، لتجده مسدلاً لمقلتيه يضع ظهر كفه على جبهته؛ جسده في نحول مرعب، وأطرافه ترتعش بوضوح مثير للحزن. اقتربت منه لتلتقط رسغه المسترخي على جانبه لتجس نبضه بينما تسأله بهدوء (هل تشعر بشيء ما يا عزيز؟) لمحت شفتاه تهتزان بخفة طفيفة وهنة كضحكة متهكمة مريرة ثم رد عليها بنبرة متقطعة وخافتة دون أن يحرك كفه من على جبهته (أ....نا.....لا.. .أش...عر...بش يئ!) أعادت يده مكانها بتمهل وأحضرت الدواء ثم انتظرت قليلا، وحين لم يتحرك حثته بهدوء (عزيز!) أزال يده المرتعشة، فاتسعت مقلتا سماء تهتف بدهشة (لماذا تبكي يا عزيز؟ ماذا حدث؟) صمت وأحشاؤه تصيح بألم؛ ماذا يقول؟ وبماذا يتحجج؟ تلك الخسارة عظيمة، حياة أضاعها، وتسربت من بين أصابعه كالماء، والسبب هو لا غيره! لن يلوم أمه ولا خالته بل سيلوم نفسه، ويحملها كل الذنوب. (عزيز!) نادته لتخرجه من سهوه فنظر إليها هامسا بوهن (أريد حفصة!) انقبض قلبها لأول مرة بعد سنوات من اللامبالاة، تسأله بريبة (من هي حفصة؟) ارتعشت شفتاه المشققتين والشاحبتين، وهو يتنفس بعمق زاد من شحوب سحنة وجهه ثم رد عليها (حفصة .... زوجتي.) بلعت ريقها ترمقه بدهشة يشوبها إحساس حارق تسلل لجوفها في غفلة منها، في غفلة من سيطرتها التي أحكمت عليها الطوق الحديدي ولمدة طويلة حتى سلمت بقوتها، فكيف اكتشف ذاك الاحساس طريقه إلى قلبها المحترق كمداً حتى بات هامداً كالرماد، كيف عادت لتشعر من جديد بالغيرة.
***
(منزل آل عيسى)
أمسكت حق يد حماتها برقة تمسد عليها وهي تخاطبها باسمة بلطف (يدك صارت أفضل ولله الحمد، وستتعافين قريبا بإذن الله.) ابتسمت لها بحزن ومقلتاها تلمعان بدموع حبيسة بينما ضميرها يجلدها بعتاب؛ ابنة لم تنجبها ظلمتها دون وجه حق، فأتاها العقاب أقسى وأشد، لكنها شاكرة لله حكمته ولولا محنتها لما تبين لها الصالح من الطالح. كيف كانت تنوي التفريق بين ابنها بكرها وبين زوجةٍ هي له الدواء لدائه، والبلسم لجروحه، بل كيف كانت ستفقد كنة تعاملها كأم من لحمها ودمها (ما بك أمي؟ لا تحزني، الشفاء قريب إن شاء الله، ألم يقل الله سبحانه ... "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)(البقرة)" ونحن ندعوا الله بيقينِ قربه وقرب استجابته.) رفعت يدها السليمة إلى خد حق التي اقتربت منها متقبلة لمستها الحنون، تتأمل ملامح وجهها وفمها الذي تحاول فتحه، لقول شيء ما (ماذا أمي؟ ها؟ حرفاً واحدا وسأفهم، وإذا كان ذلك سيريحك.) شجعتها حق، وهي تربت على يدها الموضوعة فوق خدها، فجاهدت إيجة لتحرك لسانها الثقيل في مكانه كصخرة لا تزعزع (ا...ا...ا...س...س...ح...ن...ي) انطلقت الدموع تسيل على وجنتيها، وحق تهمس بذهول وقد دمعت مقلتاها فرحاً (لقد نجحت ...أمي لقد نطقت! ربنا لك الحمد، حمداً كثيراً مبارك فيه، إبراهيم ..سأحضر إبراهيم!) انتفضت مسرعة وإيجة تومئ باكية، تريد منها أن تفهم طلبها السماح منها؛ تخشى دنو أجلها قبل أن تسمع منها كلمات الصفح، وترتعب من مقابلة خالقها بذنوب كالجبال تثقل على كتفيها الوهنين. لمحها تسرع الخطى وهو نازل على الدرج مستعداً لينطلقوا إلى منزل المرابط، فرفع يديه يضمها إلى صدره باسما يهمس لها بسرور لسرورها الناضح من على وجهها الباسم بدموع لا تذرفها إلا لفرح هز قلبها أو خشوعاً بين يدي ربها (ما الذي يسعدك لهذه الدرجة يا حق؟) رفعت وجهها إليه تبشره بلهاث (أمي نجحت بإخراج حروف.) تقوست حاجباه بعدم تصديق، فأومأت له بتأكيد وحثته ليسرع إليها يلحق بهما إسماعيل الذي سمع حديثهما صدفة. أحاط إبراهيم وجه أمه بكفيه يقول لها مستبشراً (أمي حق قالت بأنك نجحت بإخراج حروف على لسانك، دعيني أسمع أمي!) ما تزال تبكي وهي تحاول إعادة تحريك لسانها بمشقة (ح.....ح.....اا...ق) تهللت أساريرهم، وحق تقترب منها تمسك بإحدى يديها مستجيبة لندائها، فشدت هي على يدها ترمقها بتوسل (ا...ا...س...س...ح...ن..) قطبت حق تتمعن في معنى للحروف بينما إبراهيم ينظر إليها برأفة يفهم طلبها (إنها تطلب منك السماح.) قالها إسماعيل وهو يقترب ليجلس جوار والدته، ويضم كتفيها مستطرداً حديثه الموجه لزوجة أخيه (أمي تطلب منك السماح يا حق!) أومأت إيجة بلهفة أثرت على ولديها، فردت عليها المعنية بحيرة صادقة (لماذا ستطلب مني السماح؟) رقت نظرة إبراهيم وقلبه ينبض حبا لتلك الفتاة ذات السريرة النقية، بينما إسماعيل يتدخل حين لاحظ توغل الذنب ينهش أحشاء والدته فيطفو بمرارته على صفحة عينيها الغائرتين (هل هذا يعني أنك لا تحملين لأمي ضغينة في قلبك يا حق؟) حدق بها الثلاثة منتظرين الرد باهتمام، فابتسمت بخجل من تركيزهم عليها تجيب بتوتر (لا أفهم سبب سؤالك هذا؟ فأنا لا أحمل ضغينة لأحد، فكيف أحملها لأمي؟) ضاقت مقلتا إسماعيل يسألها باحترافية تجاوزت إراحة ضمير والدته (أمي تعتذر إليك عما صدر منها تجاهك في بداية زواجك أنت وإبراهيم.) تهربت إيجة بمقلتيها خزياً بينما حق ما تزال تستفسر بحيرة واضحة بصدقها عبر نظراتها (لكنها لم تفعل ما يجعلني أحمل لها ضغينة.) لم ييأس إسماعيل وهو يشرح لها متجاهلاً تكدر ملامح والدته المتوترة يبحث عن شيء ما (أمي قست عليك يا حق، وظلمتك دون وجه حق وأنت ما تزالين عروسا جديدة.) شعر إبراهيم بضيق من الحوار، لكن شقيقه في طريقه لهدف ما، جعله يصمت بترقب. جعدت حق ذقنها باستغراب ترد عليه بتلقائية (لكن الأمهات عادة هكذا، تهتاج أعصابهن قليلا، ويصحن وهن يعاملن أولادهن ببعض القسوة، أمي ميمونة تفعل ذلك.) ثم أضافت بينما تهز كتفيها بخفة (إنها الأم.) ابتسم إسماعيل ببرود وقد تأكد من شكوكه، ليقوم إبراهيم من مكانه قائلاً وهو يقبل رأس والدته (استرخي يا أمي، لقد سمعتها، حق لا تحمل لك ولا لغيرك ضغينة وكلنا نخطئ، المهم هي التوبة، أكثري من الاستغفار.) لم تُحد إيجّة بمقلتيها على وجه حق، منذ سماعها لجوابها؛ لقد ظنت بأنها تعاملها كأم، لا تستوعب كيف تفكر تلك الفتاة! (هيا إسماعيل، الناس في انتظارنا.) انتزعت مقلتيها من على حق إلى ولديها وقد انبثق الرفض من قلب ملامحها، فربت إسماعيل على وجنتها بحنو يرجوها (من فضلك أمي امنحيني رضاك، الفتاة ليست كالأخرى، وسترين بنفسك!) هزت رأسها بوجوم، فانحنى ليقبل يدها قبل أن ينصرف، فاقتربت منها حق على السرير تمسك يدها بحنو مجددًا (هل أتلو عليك وِرْد اليوم قبل وجبة العشاء؟ أفترض اضطرارنا للسهر الليلة من أجل العروس!) أومأت لها بفتور تفكر بأنها رفضت العروس الأولى بجَور، فعوقبت برفض الثانية بسبب شيطانة لم تدرك مدى شرها إلا بعد أن حققت مأربها. لحق إسماعيل بشقيقه ليجده منتظرا على الباب الداخلي ببدلته السوداء الأنيقة، يرمقه بسؤال غير منطوق، فابتسم يجيبه (إنه اعتقاد سلوكي، زوجتك كبرت على النمط الذي أمامها كأم، فافترضت بأن سائر الأمهات قاسيات في معاملة أبنائهن، وقلة هم من مثل زوجتك، ذكرني لاحقا أن أشرح لك السبب العلمي لسلوكهم، لأننا تأخرنا بالفعل.) (أوووه! العريس مستعجل، أنت محظوظ لأننا لم نقم حفل عرس ضخم كعرس إبراهيم، لكنت انتظرت أكثر!) كان هذا عيسى الذي انضم إليهما متأنقا في بدلته هو الآخر، يتبعه جدهم الباسم لطرفة حفيده بينما يتفقد عمامته وجلبابه. ابتسم له اسماعيل بجمود دال على عدم مبادلته تسليته، فسأله إبراهيم (أين منصف؟) اشار لهم ليتقدموا نحو السيارات، وهو يخبرهم بنفس التسلية (يشعر بتوعك في بطنه فتركته في
You are reading the story above: TeenFic.Net